إقتصاد

الميليشيات المرتبطة بإيران تحقق أموالا طائلة من التهرب الجمركي في العراق

وكالة الصحافة الفرنسية

صورة التقطت في 14 آذار/مارس تظهر فيها منصات نقالة محملة بالخشب المستورد يتم تفريغها من سفينة شحن على رصيف ميناء أم قصر. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

صورة التقطت في 14 آذار/مارس تظهر فيها منصات نقالة محملة بالخشب المستورد يتم تفريغها من سفينة شحن على رصيف ميناء أم قصر. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

بغداد -- على طول حدود العراق، يقوم كارتل فاسد للتهرب الجمركي بتحويل مليارات الدولارات التي يفترض أن تدخل خزائن الدولة إلى جيوب الميليشيات المدعومة من إيران وفصائل مسلحة وأحزاب سياسية ومسؤولين منحرفين.

والمستفيدون الرئيسيون همالميليشيات المدعومة من إيران والتي ترهب كل مسؤول اتحادي يتجرأ على عرقلة عملها، ووصل بها الأمر إلى حد تهديدهم بالقتل بشكل تقشعر له الأبدان، وفق تحقيق أجرته وكالة الصحافة الفرنسية استغرق إعداده ستة أشهر.

وهذه الشبكة مؤهلة ومحصنة بشكل جيد لدرجة يتم معها توزيع الإيرادات بين الجماعات المتنافسة دون حصول احتكاكات تذكر، فيما يمكن اعتباره جزءا من نظام مواز وصفه وزير المالية العراقي بأنه "نهب للدولة".

وقال موظف عراقي في الجمارك إن "الأمر لا يوصف، وهو أسوأ من شريعة الغاب. في الغابة، على الأقل تأكل الحيوانات وتشبع. هؤلاء الرجال لا يقنعون أبدا".

صورة التقطت في في 14 آذار/مارس من الجو تظهر فيها حاويات يتم تفريغها من سفينة شحن راسية في ميناء أم قصر العراقي. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

صورة التقطت في في 14 آذار/مارس من الجو تظهر فيها حاويات يتم تفريغها من سفينة شحن راسية في ميناء أم قصر العراقي. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

صورة التقطت في 14 آذار/مارس تظهر فيها سفينة الماشية إليفيشين التي ترفع علم لبنان، وهي راسية في ميناء أم قصر العراقي. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

صورة التقطت في 14 آذار/مارس تظهر فيها سفينة الماشية إليفيشين التي ترفع علم لبنان، وهي راسية في ميناء أم قصر العراقي. [حسين فالح/وكالة الصحافة الفرنسية]

وعلى غرار معظم المسؤولين الحكوميين وعمال الموانئ والمستوردين الذين تمت مقابلتهتم خلال إعداد هذا التحقيق، طلب الموظف التحدث دون الكشف عن هويته خوفا من تعرّض حياته للخطر.

وتشكل رسوم الجمارك أحد المصادر القليلة لإيرادات الدولة، ولإبقاء الجماعات والعشائر المختلفة راضية، والعديد منهم مقرب من إيران، اقتسموا فيما بينهم النفوذ على معابر الدخول حيث حلّت الرشاوى بشكل كبير مكان الرسوم الاتحادية.

وقال وزير المالية علي علاوي "هناك نوع من التواطؤ بين مسؤولين وأحزاب سياسية وعصابات ورجال أعمال فاسدين".

تحويل إيرادات الدولة

ويستورد العراق الغالبية العظمى من بضائعه، ويعتمد في الغالب على إيران وتركيا والصين في كل شيء، من الأغذية والإلكترونيات إلى الغاز الطبيعي.

ورسميًا، استورد البلد الذي يبلغ تعداد سكانه 40 مليون نسمة ما قيمته 21 مليار دولار من السلع غير النفطية في عام 2019، وهو آخر عام تتاح فيه البيانات الحكومية الكاملة.

ولدى العراق خمسة معابر رسمية على الحدود مع إيران وواحد على الحدود مع تركيا، في حين يعتبر المعبر الحدودي الأكبر والأكثر ربحا هو ميناء أم قصر في محافظة البصرة.

وتهدف الرسوم على الواردات عبر نقاط الدخول تلك إلى تكملة عائدات الدولة من قطاع النفط الضخم في العراق، لكنها لا تفعل.

فنظام الاستيراد العراقي معقد وقديم. وفي هذا الإطار، أشار تقرير للبنك الدولي صدر عام 2020 إلى تأخيرات لا تنتهي ورسوم امتثال مرتفعة واستغلال ممنهج.

وأدى ذلك، وفق مسؤولين وعمال موانئ ومستوردين ومحللين، إلى نشوء نظام استيراد مواز تتقاسم من خلاله أحزاب ومجموعات مسلحة المعابر البرية والبحرية.

الميليشيات المدعومة من إيران تسيطر على المعابر الحدودية

وأكد مسؤولون عراقيون أن فصائل وميليشيات تعمل تحت مظلة قوات الحشد الشعبي تسيطر بشكل غير رسمي على غالبية نقاط الدخول.

ويعمل أعضاء هذه الجماعات وحلفاؤهم أو أقاربهم كوكلاء حدود أو مفتشين أو رجال شرطة، ويتقاضون رشاوى مالية من المستوردين الذين يريدون تجاوز الإجراءات الرسمية أو الحصول على حسم على الرسوم.

وقال ضابط في المخابرات العراقية حقق في قضية التهرّب الجمركي "إذا كنت تريد طريقا مختصرا، تذهب إلى الميليشيات أو الأحزاب".

وأضاف أن المستوردين يقولون لأنفسهم "أفضل خسارة مئة ألف دولار (تدفع كرشوة) بدلا من خسارة بضاعتي بالكامل".

وينفي الحشد الشعبي هذه المزاعم علنا. لكن مصادر مقربة من فصائل متشددة مدعومة من إيران مثل عصائب أهل الحق و كتائب حزب الله، أقرت أن المراكز الجمركية مقسمة فعليا حسبما تتحدث الأنباء.

وذكروا أمثلة على أرصفة موانئ محددة ومعابر برية ومنتجات بما يتطابق مع ما ذكره مسؤولو الجمارك وضابط المخابرات.

10 آلاف دولار يوميا كرشاوى

وأكد عمال ميناء ومسؤولون ومحللون أن منظمة بدر مثلا تدير معبر مندلي على الحدود الإيرانية.

ويفاخر أحد المسؤولين عند المعبر كاشفا أنه يمكن للعامل الحدودي أن يجمع 10 آلاف دولار يوميا من الرشاوى، يذهب معظمها إلى الجماعة المسلحة المشرفة والمسؤولين المتواطئين.

في حالات أخرى، تسيطر جماعة مسلحة على نوع معين من التجارة.

وقال ضابط المخابرات "إذا كنت تاجر سجائر، اذهب إلى المكتب الاقتصادي لكتائب حزب الله في الجادرية (في بغداد)، أطرق الباب، وقل أريد التنسيق معكم".

وأحد الأشخاص الرئيسين هو "المخلِّص"، أي موظف الجمارك الحكومي المختص بالتعامل مع الشحنات الواردة، وهو غالبا ما يعمل كوسيط لجماعة مسلحة.

وأضاف ضابط المخابرات "لا يوجد شيء اسمه مخَلِّص من دون انتماء، جميعهم مدعومون من الأحزاب".

وبعد الدفع، سواء نقدا مقابل عمليات صغيرة أو عبر تحويلات مصرفية لصفقات أكبر، يقوم المخلّص بتزوير الأوراق الرسمية عبر تحريف نوع السلعة التي يتم استيرادها أو كميتها أو قيمتها الإجمالية، ما يؤدي الى خفض قيمة الرسوم الجمركية.

ويوفر تسجيل كمية أصغر من الكمية الحقيقية للمستورد حسما على الرسوم الجمركية يصل إلى 60 في المائة، حسبما أوضح أحد المستوردين.

استشراء الفساد

أما بالنسبة للسلع التي عليها رسوم جمركية مرتفعة، فأنجع الطرق هو تسجيلها على أنها بضاعة من نوع آخر.

والمثال الشائع على ذلك هو استيراد السجائر التي تبلغ تعريفة استيرادها الرسمية 30 في المائة من قيمتها، بالإضافة إلى 100 في المائة أخرى بهدف تشجيع السجائر المصنعة محليا. ولتقليص هذه الرسوم، غالبا ما يتم تسجيل السجائر على أنها مناديل ورقية أو سلع بلاستيكية.

ويتلاعب المخلّصون أيضاً بالقيمة الإجمالية المقدّرة للشحنة، فتسجل تلك القيمة بداية على رخصة الاستيراد، لكن يعاد النظر في قيمتها عند نقطة الدخول.

وروى مسؤول في أم قصر لوكالة الصحافة الفرنسية، أن أحد وكلاء الجمارك قام بتقييم شحنة من حديد التسليح بثمن بخس لدرجة أن المستورد دفع رسوما جمركية قدرها 200 ألف دولار، في حين كان ينبغي أن يدفع أكثر من مليون دولار.

ومن خلال علاقات مع أشخاص نافذين، تتسرب بعض البضائع دون تدقيق على الإطلاق.

وقال موظف الجمارك الذي روى الحادثة "أنا لست فاسدا، ولكنني حتى لو اضطررت لمعاينة الشحنة، فإنا في واقع الأمر لم أفحصها لأنها مرتبطة بطرف نافذ".

من جهة أخرى، قال مستورد لوكالة الصحافة الفرنسية إنه دفع 30 ألف دولار لموظف جمارك في أم قصر للموافقة على دخول أجهزة كهربائية مستعملة يعتبر استيرادها مخالفا للقانون.

وأضاف أنه يدفع بانتظام رشوة لشرطة الموانئ لإبلاغه عن عمليات التفتيش المفاجئة. ومقابل رسوم إضافية، عرض الضابط عليه إرسال دوريات لتعطيل خروج بضائع منافسة.

’مافيا حقيقية‘

وبالنظر إلى اعتبار المنافذ الحدودية بقرة حلوب لدر الأموال، يدفع الموظفون العامون أموالا لرؤسائهم لتعيينهم هناك، وخصوصا في أم القصر.

وأعرب علاوي عن أسفه قائلا "يتراوح سعر أصغر وظيفة في الجمارك بين 50 ألف دولار إلى مئة ألف دولار، وفي بعض الأحيان ترتفع إلى أضعاف ذلك"، لافتا إلى أن الاحتيال الذي يرافق نظام الاستيراد "يساهم في نهب الدولة".

وتستخدم الأحزاب والجماعات المسلحة نفوذها السياسي لحماية ما تقوم به من نهب وسرقة، ولا تتوانى عن التهديد باستخدام العنف.

وقال عامل في معبر مندلي إنه أخّر ذات مرة دخول شحنة قادمة من إيران لافتقادها أوراقا رسمية، لكنه بعد ذلك سمح بتمريرها بدون رسوم جمركية بعدما أظهر المخلّص الذي يتعامل مع الشحنة أوراق هويته كأحد عناصر الحشد الشعبي.

وروى ضابط المخابرات أن مخبرا في معبر زرباطية على الحدود مع إيران والذي تديره عصائب أهل الحق، وُضع مرارا في إجازة إدارية بسبب عرقلته عمليات استيراد منتجات إيرانية دون رسوم جمركية إلى أن رضخ أخيرا.

وتابع الضابط "عدنا لاحقا للتحدث معه مرة أخرى ووجدنا أنه انضم إلى العصائب".

من جهته، قال موظف كبير في المنافذ الحدودية إنه يتلقى مكالمات منتظمة من أرقام سرية تهدّد بالتعرض لأقاربه بالاسم، في محاولة لترهيبه ودفعه إلى وقف عمليات التفتيش على البضائع.

وكان موظف الجمارك من بين آخرين قالوا إنهم تعرضوا لتهديدات بالقتل.

وقال "لا يمكننا فعل شيء لأننا سنقتل. الناس خائفون. إنها مافيا حقيقية".

’إذا سقط أحدهم سيسقط الآخرون‘

وأوضح ريناد منصور من مركز أبحاث تشاتام هاوس أن هذا النظام أصبح شريان الحياة للأحزاب العراقية والميليشيات، بما في ذلك فصائل قوات الحشد الشعبي التي تدعمها إيران.

وأضفت هذه الأطراف طابعا احترافيا على مصدر التمويل هذا بعد هزيمة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) عام 2017.

فهذا الانتصار أنهى موازنات الدفاع الكبيرة التي كانت مخصصة للحملة العسكرية ضد داعش والتي شملت قوات الحشد الشعبي، ما أدى لظهور الحاجة لإيجاد مصادر تمويل بديلة.

واشتد الخناق على هذه الأحزاب والميليشيات بعدمافرضت الولايات المتحدة عقوبات مشددة على إيران.

وفي العام الماضي، أدرجت الولايات المتحدة شركة شحن في أم قصر، هي شركة الخمائل البحرية للخدمات، على القائمة السوداء، وذلك لتنسيقها مع ميليشيات بهدف مساعدة الحرس الثوري الإيراني على "التهرب من بروتوكول التفتيش الحكومي العراقي".

كما فرضت عقوبات على عراقيين اثنين وإيرانيين اثنين مرتبطين بهذه الشركة لتمويلهم كتائب حزب الله وحزب الله اللبناني.

وأكد منصور أن "منفذًا حدوديًا واحدًا يمكن أن يدر ما يصل إلى 120 ألف دولار يوميا. ولا يعود هذا المبلغ لجماعة واحدة بل تتقاسمه جماعات عدة قد تكون أحيانا عند التدقيق بها على عداوة فيما بينها".

حروب التنافس نادرة ولكنها تحدث. ففي شباط/فبراير الماضي، وصف مصدر من قوات الحشد الشعبي لوكالة الصحافة الفرنسية كيف قُتل عنصران من عصائب أهل الحق بسبب "دوافع اقتصادية" في حادثين منفصلين.

ولكن عادة ما يعمل الكارتل بشكل سلس.

وأشار ضابط المخابرات العراقي إلى أنه "لا توجد منافسة. يعرفون أنه إذا سقط أحدهم فسيسقط الآخرون".

نهب الشعب العراقي

ويحرم هذا النظام الموازي الدولة من مصادر تمويل كان يمكن تخصيصها للمدارس والمستشفيات والخدمات العامة الأخرى، في وقت بلغت فيه نسبة الفقر في العراق 40 في المائة.

وقال الوزير علاوي "يجب أن نحصل على سبعة مليارات دولار من الجمارك سنويا، لكن في الواقع، تصل 10 إلى 12 في المائة فقط من موارد الجمارك إلى وزارة المالية".

ولفت مسؤول عراقي إلى أن المستهلك يدفع في نهاية المطاف تكلفة الرشاوى.

وأردف "بصفتك مستهلكا، فأنت الشخص الذي ينتهي به الأمر بدفع ثمن الفساد في المتجر".

ومنذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الوزراء في أيار/مايو الماضي، جعل مصطفى الكاظمي من إصلاح المعابر الحدودية أولوية قصوى بهدف زيادة إيرادات الحكومة، لا سيما بعد تراجع أسعار النفط.

وفي جولات حظيت بتغطية إعلامية واسعة إلى أم قصر ومندلي، تعهد بإرسال قوات جديدة إلى كل منفذ حدودي وتطبيق المداورة في وظائف الجمارك العليا بانتظام لتفكيك دوائر الفساد.

وتم تحقيق بعض المكتسبات على هذه الجبهة، وتفيد هيئة المنافذ الحدودية يوميا عن عمليات ضبط البضائع التي جرت محاولات لتهريبها دون دفع رسوم جمركية.

وقالت الهيئة إن العراق حصد 818 مليون دولار من الرسوم عام 2020، وهو مبلغ أعلى بقليل من 768 مليون دولار حقق في العام الماضي، على الرغم من انخفاض الواردات بسبب فيروس كورونا.

’الفساد ما يزال موجودا‘

وكشف مستوردون ووسطاء ومسؤولون أنه في حين يدفع بعض المستوردين الآن الرسوم الحكومية، فإنهم ما زالوا يدفعون في الوقت نفسه الى الوسطاء للتأكد من عدم تأخير تسليم بضائعهم بشكل تعسفي.

وقال رجل أعمال عربي كان يستورد بضائع الى العراق منذ أكثر من عقد "في النهاية، ندفع مرتين".

وتكمن المشكلة الرئيسة، بحسب المستوردين والمسؤولين، في كون "تناوب الموظفين لم يشمل ترسًا حاسما في آلة الفساد: المخلّص.

وذكر مسؤول الجمارك أن "الوسيط الرئيس للفساد ما زال هناك. تفاحة فاسدة واحدة ستفسد الباقي".

وقال مسؤول في وزارة الدفاع الأميركية لوكالة الصحافة الفرنسية إن كتائب حزب الله أُمرت بإغلاق مكتبها في مطار بغداد الدولي لمنعها من تهريب بضائع ثمينة.

وأضاف المسؤول "لديهم الآن مركز خارج المطار، لكن ما يزال بإمكانهم الصعود إلى الطائرة والقيام بما يريدون. الفساد ما يزال موجودا".

وبدلا من الاتصال هاتفيا ببعضهم البعض بشكل علني، تحول الوسطاء إلى تطبيق واتساب وغيره من تطبيقات المراسلة المشفرة.

وحذر مسؤولون من أن محاولة تفكيك الشبكة المربحة بالكامل سيؤدي إلى عنف قد يكون الكاظمي غير مستعد له.

وأوضح ضابط المخابرات "أن رصيفا واحدا في أم قصر يعادل موازنة دولة"، مبالغا بشكل متعمد للتأكيد على هذه النقطة.

وشدد على "أنهم لن يتخلوا عنها بسهولة".

هل أعجبك هذا المقال؟

0 تعليق

سياسة المشارق بشأن التعليقات * معلومات ضرورية 1500 / 1500