موسكو ـ في الوقت الذي تتدافع فيه العديد من الدول لإخلاء سفاراتها وإجلاء موظفيها من أفغانستان، تزعم روسيا أنها لن تغادر البلاد.
وبعد يوم من اجتياح طالبان لكابول، جاء في بيان صادر عن وزارة الخارجية الروسية يوم 16 آب/أغسطس أن الوضع في العاصمة الأفغانية "في طور الاستقرار" وأن طالبان بدأت "بإعادة إحلال النظام العام".
وقال السفير دميتري زيرنوف إن طالبان تحرس بالفعل السفارة الروسية، وقدمت لموسكو ضمانات بأن المبنى سيكون آمنا.
وكشف أن المسلحين أكدوا للروس أنه "لن تسقط شعرة واحدة من رؤوس" دبلوماسييهم.
ومع ذلك، يبدو أن ثقة روسيا في طالبان تتلاشى مع مرور الأيام. فقد أجلت 4 طائرات عسكرية روسية يوم الأربعاء، 25 آب/أغسطس، أكثر من 500 مواطن روسي ومن آسيا الوسطى من أفغانستان بناء على توجيهات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
وتمثل هذه الخطوة تحولا في موقف البلاد من أفغانستان.
وعلى الرغم من أن الجماعة الإسلامية المتشددة نشأت خلال الحرب ضد السوفيت في ثمانينيات القرن الماضي والتي أودت بحياة نحو 15000 جندي سوفيتي، تنظر روسيا اليوم إلى الجماعة نظرة براغماتية.
وبعد مرور 3 عقود وفي خطوة تشير على ما يبدو إلى عدم اكتراث بالماضي المؤلم، عزز الكرملين مصداقية طالبان الدولية من خلال استضافتها مرات عدة لإجراء محادثات في موسكو رغم كونها منظمة إرهابية محظورة في روسيا،
ولم يمنع هذا التصنيف الكرملين من تسليح وتمويل طالبان منذ العام 2015 على الأقل، وذلك في إطار علاقة من الممكن أنها شجعت موسكو على إبقاء سفارتها في كابول مفتوحة.
وفي 17 آب/أغسطس، التقى زيرنوف بحركة طالبان في كابول، وأشاد عبر التلفزيون الحكومي بالاجتماع "الإيجابي والبناء".
حماية مصالح الكرملين في آسيا الوسطى
وقال محللون إن الهدف من هذه المحادثات هو منع الصراع من الامتداد إلى دول آسيا الوسطى المجاورة حيث تحتفظ روسيا بقواعد عسكرية.
وفي هذا السياق، قال نيكولاي بورديوزا الأمين العام السابق لمنظمة معاهدة الأمن الجماعي التي تقودها موسكو، إنه "إذا أردنا أن يكون هناك سلام في آسيا الوسطى، فنحن بحاجة إلى التحدث مع طالبان".
وتحركت حركة طالبان لطمأنة جيرانها في شمال البلاد بأنها لن تستهدفهم، على الرغم من أن العديد من دول آسيا الوسطى قد عرضت دعما لوجستيا لقوات حلف شمال الأطلسي.
وأشار زيرنوف إلى أن طالبان أعطت موسكو أيضا تطمينات.
وأضاف أن روسيا تريد لأفغانستان أن تقيم علاقات سلمية مع "جميع دول العالم"، مؤكدا أن "طالبان قد وعدتنا فعليا" بالقيام بذلك.
ولكن امتنع الكرملين يوم الخميس عن الاعتراف رسميا بحكومة لطالبان في أفغانستان، قائلا إنه سيراقب سلوك الجماعة قبل البت في مثل هذا القرار.
ومع تقدم حركة طالبان في جميع أنحاء أفغانستان هذا الصيف، نظمت روسيا مناورات حربية مع حلفائها أوزبكستان وطاجيكستان متوضعة كحامية لآسيا الوسطى على الرغم من تاريخها في تمويل طالبان وتسليحها.
وقال الباحث في آسيا الوسطى أركادي دوبنوف، إن موسكو ستنظر الآن في تعزيز وجودها العسكري في المنطقة.
وتابع "ستكون هذه الدول ملزمة بدرجات مختلفة بقبول مساعدة موسكو، لكن أيا منها لن يرغب في مقايضة سيادتها بأمنها".
وشدد على أن الدول الثلاث المجاورة لأفغانستان في آسيا الوسطى أي أوزبكستان وطاجيكستان وتركمانستان، تقارب الصراع برؤى مختلفة.
ففي حين أجرت أوزبكستان وتركمانستان محادثات رفيعة المستوى مع طالبان ومن المرجح أن تعترفا بحكمها، لم تتعامل طاجيكستان مع المسلحين.
حلفاء ’ودودون ومتعاونون‘
ولا بد من الإشارة إلى أن حوار روسيا مع طالبان هو ثمرة سنوات عديدة من المغازلة.
ووصف ديمتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين في تموز/يوليو حركة طالبان بأنها "قوة جبارة". وحمّل وزير الخارجية سيرغي لافروف آنذاك الحكومة الأفغانية مسؤولية تعثر التقدم في المحادثات.
وفي حديث لمحطة إذاعة إيكو موسكفي يوم 16 آب/أغسطس، قال مبعوث الكرملين الخاص لأفغانستان زامير كابولوف، إنه "ليس من قبيل المصادفة أننا دأبنا على التواصل مع حركة طالبان على مدى السنوات السبع الماضية".
وتثير هذه العلاقة الكثير من التساؤلات بالنظر إلى الحرب السوفيتية الأفغانية التي يبدو أن كلا الجانبين حريص على نسيانها.
ولكن ذكر ألكسندر بونوف من مركز كارنيغي في موسكو، إن روسيا تفترض أن حركة طالبان قد تغيرت منذ التسعينيات عندما أمنت مأوى للقاعدة.
وصرح لوكالة الصحافة الفرنسية أن "موسكو لا تعتبر نسخة المجاهدين هذه عدوة لها".
وسارعت بكين أيضا إلى التواصل مع طالبان لتهنئتها، في وقت كانت تسود فيه حالة من الغموض في كابول.
وقالت متحدثة باسم الحكومة يوم 16 آب/أغسطس، إن الصين مستعدة لتوطيد علاقات "الود والتعاون" مع طالبان.
من جانبها، أكدت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية هوا تشون ينغ للصحافيين، أن "طالبان أعربت مرارا عن أملها في تطوير علاقات جيدة مع الصين، وأنها تتطلع إلى مشاركة الصين في إعادة إعمار أفغانستان وتحقيق التنمية فيها".
من جهة أخرى، فإن لاعتراف بكين بطالبان تداعيات استراتيجية.
وأشار محللون إلى أن إدارة متعاونة في كابول ستمهد الطريق لتوسيع مبادرة الحزام والطريق الصينية لتشمل أفغانستان وسائر جمهوريات آسيا الوسطى.
ومن بين أهدافها المتعددة، تهدف مبادرة الحزام والطريق إلى تسهيل استخراج وشحن الموارد الطبيعية الخاصة بالبلدان الفقيرة لصالح الصين.
وفي الوقت نفسه، قد تعتبر طالبان الصين مصدرا مهما للاستثمار والدعم الاقتصادي، إما بشكل مباشر أو عبر باكستان الحليف الوثيق لبكين.
وفي تحالف المصلحة هذا، يبدو أن طالبان مستعدة للتغاضي عن قمع الصين لملايين المسلمين في سنجان، بينما التزمت بكين بصمت شبه تام حيال عقيدة طالبان المتشددة وحملتها العنيفة للإطاحة بالحكومة الأفغانية.