أظهر وثائقي جديد أنتجه النظام الإيراني المرشد الأعلى علي خامنئي على أنه رجل ودود وقريب من الشعب، إلا أنه امتنع عن تسليط الضوء على تاريخ الزعيم الحافل بالانقسام والمسائل المثيرة للجدل.
ويحمل الفيلم عنوان "غير رسمي" وهو من إنتاج مهر فيلم ومكتب خامنئي، وقد بث على الشاشات المحلية والفضائية لإذاعة جمهورية إيران الإسلامية كما تم الترويج له على المواقع الإلكترونية التابعة للحرس الثوري الإيراني.
وقال منتجو الفيلم إنه يظهر اجتماعات أسبوعية "غير رسمية ومصغرة" عقدها خامنئي كل يوم خميس منذ العام 2016 مع ناشطين ثقافيين وفنانين وعلماء وطلاب جامعات ومواطنين عاديين.
ويركز القسم الأول من الوثائقي على اجتماعات خامنئي مع مخرجي "الدفاع المقدس"، وهي عبارة تستخدم لمن يخرجون أفلاما عن الحرب الإيرانية-العراقية التي امتدت بين 1980 و1988.
أما القسم الثاني، فيتناول زياراته ومحادثاته مع مجمل المجموعات الأخرى، بما في ذلك أفراد من الشعب.
وفي الفيلم، يظهر خامنئي الذي يحكم إيران بقبضة من حديد منذ أكثر من ثلاثة عقود، وهو يتعامل مع إيرانيين عاديين، لكن النقاد أكدوا أنه من الواضح أن الفيلم منتج ومصور بشكل مدروس جدا.
وخلافا لما يظهره الوثائقي عنه، يعتبر خامنئي زعيما يعتمد إلى حد كبير على القوى الأمنية كالحرس الثوري، من أجل تفعيل سلطته والاستمرار بالحكم وقمع المعارضة المحلية وتصدير الحروب بالوكالة إلى المنطقة وخارجها.
حقيقة خادعة
ولأغراض وأهداف عدة، تجاهل فيلم "غير رسمي" الواقع الفعلي الذي يروج له، ملتزما بذلك بالنهج الاستبدادي لكل إنتاج يصمم حسب الطلب النظام.
وفي هذا السياق، اختار منتجو "غير رسمي" بلباقة مقتطفات من أحاديث لخامنئي بدا فيها معسول اللسان، مظهرا في أخرى روح دعابة خففت من نبرة صوته، بينما بدا في لقطات أخرى أحدث ضعيفا أو مريضا.
وفي مشهد من القسم الثاني من الفيلم، ظهر أحد المؤرخين وهو يشيد بالقائد "لحديثه حول التاريخ الإيراني والشاهنامه"، فبدا خامنئي متفاجئا وأجاب "بالطبعّ" وكأنه يقول إنه يقرأ دوما التاريخ الإيراني القديم وهو من المعجبين بالملحمة الشعرية الشاهنامه التي ألفها الفردوسي.
وفي الواقع وخلال السنوات التي أعقبت الثورة الإسلامية، كانت ابيات الشاهنامه ("كتاب الملوك" للشاعر الإيراني الفردوسي) من أولى أهداف مقص الرقابة فحذفت من الكتب المدرسية الإيرانية، ويعود السبب الرئيس لحذفها إلى الجهود الموثقة والملموسة التي بذلها المؤلف للحفاظ على اللغة الفارسية من خلال الشعر في ظل خضوع إيران للحكم الإسلامي.
ولطالما أظهرت الجمهورية الإسلامية وخامنئي المعروف بشغفه بالأدب والشعر، أفضلية للترويج للغة العربية على حساب اللغة الفارسية، مع تفضيل الأدب الفارسي المرفق بالعربية أو المتأثر بالعربية كمواد للتدريس.
وظهر مثال على ذلك في إحدى لقطات الفيلم الوثائقي حين كان خامنئي يستمع إلى قراءة للشعر، فظهر عليه الفرح حين قرأ أحد الشعراء أبياتا للشاعر سعدي شيرازي كتب جزء منها بالعربية. وبات واضحا أن هذا المشهد يحاول تسليط الضوء على حب خامنئي للأدب.
ثناء اختير بطريقة مدروسة جدا
وأظهر المفيلم أيضا خامنئي وهو يستقبل الفنانين كالعادة في أماكن متواضعة.
وللمشاهدين الذين يعرفون الشخصيات الإيرانية البارزة، كان جليا تعمد إظهار المشاهير العلمانيين الذين لا صلة لهم بالنظام في لقطات اخذت عن مسافة قصيرة، إلا أن تعليقاتهم لم تصور.
فالشهادات والتعليقات اقتصرت على تلك التي أدلت بها شخصيات مقربة من النظام أو لمن أوكلت إليهم مهمة العمل على أفلام أو مسلسلات مقابل مبالغ مالية كبيرة.
وفي المشاهد التي ظهرت فيها تعليقات أو أسئلة طرحها الزوار، أزيلت الانتقادات اللاذعة أثناء تحرير مادة الفيلم، في حين أبقي على الخفيف منها لإظهار مدى صبر المرشد الأعلى ولطفه. أما التعليقات المادحة، فخصص لها وقتا طويلا.
وفي أحد المشاهد، قال طالب جامعي إنه يريد "انتقاد" المرشد الأعلى لأنه "فقد الأمل بمستقبل في إيران".
فما كان من خامنئي إلا أن دعاه إلى التحلي بالأمل طالبا منه الاقتراب منه، فعانقه وقبّل وجهه قائلا "أليس من المؤسف أن تفقد الأمل؟ ما زلت شابا، ويجب أن تكون دوما مفعما بالأمل".
وعاد الشاب إلى مقعده مبتسما.
وفي مشهد آخر من القسم الثاني من الفيلم، ذكر شاعر أنه حضر اجتماعا وهو مدجج "بأحكام مسبقة"، لكن ثبت له أنه كان على خطأ.
وعوضا عن تصوير محادثات حقيقية حصلت فعلا، عرض الفيلم فنانين ظهروا بشكل فردي أمام الكاميرا لتقديم ما يشبه "الاعتراف".
ويعتبر معظم هؤلاء الأشخاص إما غير ناجحين أو غير مشهورين أو معروفين بموالاتهم للنظام. ويُذكر أن العديد من الفنانين المستقلين والمحترمين يقاطعون إذاعة جمهورية إيران الإسلامية، أو على الأقل يرفضون الظهور في برامجها.
الاعتماد على القدرة العسكرية
ويطلق مؤيدو الزعيم الإيراني عليه اسم "مرشد المسلمين"، وهو لقب شرف يهدف إلى تصويره كرجل يروج للوحدة في العالم الإسلامي.
ولكن عبر استعراض ممارساته منذ أن تولى منصبه، يتبين أنه حتى اليوم عمل على بث الانقسام في إيران، وغالبا ما استخدم الحرس الثوري الإيراني لقمع المعارضة.
ورغم تباهي خامنئي بالوحدة الشيعية-السنية، يتم قمع الأقلية السنية الإيرانية بصورة منهجية، وهي مسألة اشتكى منها القادة السنة من حين إلى آخر.
وكمثال على ذلك، اشتكى أحد زعماء أهل السنة من زاهدان، مولاي عبد الحميد، في رسالة وجهها إلى خامنئي في 5 كانون الثاني/يناير من "كون السنة مواطنين من الدرجة الثانية والثالثة".
وسواء كانت المعارضة من ضمن صفوف رجال الدين أو الشعب الإيراني، قام خامنئي بصورة منهجية بتهميش وقمع المنتقدين، وغالبا ما اعتمد في ذلك على الحرس الثوري كما حصل لدى قمع المتظاهرين السلميين في طهران ومدن أخرى خلال التظاهرات الشعبية التي نظمت عام 2019 احتجاجا على ارتفاع أسعار البنزين.
ويحتفظ خامنئي بعلاقة وطيدة مع الحرس الثوري، فيدعمه ويخصص له ميزانية كبيرة تزيد سنة بعد سنة ويؤثر على كل قرارات الحرس واستراتيجياته وأفعاله.
وخارج إيران، استخدم خامنئي فيلق القدس التابع للحرس الثوري لدعم الجماعات المسلحة الشيعية من أجل تنفيذ مشروع إيران التوسعي.
وكان قائد فيلق القدس قاسم سليماني الذي تعرض للقتل، يعتبر رجلا قويا جدا في إيران نظرا لعلاقته الوطيدة بخامنئي والمبنية على الثقة. وقد تمكن من استعمال هذا النفوذ لبناء شبكة واسعة في المنطقة من الوكلاء الموالين لإيران والخاضعين لأوامرها.
يُذكر أن الحرس الثوري نفذ بواسطة وكلائه نحو 360 هجوما إرهابيا في 40 بلدا، غالبيتها في الشرق الأوسط.
وخلال الأشهر الماضية، كانت الجماعات المدعومة من الحرس الثوري وراء عدد من الهجمات التي نفذت في مختلف أنحاء المنطقة.
ففي 22 تشرين الثاني/نوفمبر على سبيل المثال، نفذ الحوثيون (أنصار الله) المدعومون من إيران هجوما صاروخيا على منشأة لتخزين الوقود تابعة لشركة أرامكو في مدينة جدة السعودية.
أما في العراق، فشنت كتائب حزب الله وفصائل أخرى متشددة وتابعة لإيران هجمات ضد قوات التحالف الدولي والجيش العراقي والمقرات الدبلوماسية في المنطقة الخضراء، بينها هجوم نفذ في 20 كانون الأول/ديسمبر على السفارة الأميركية في بغداد.
ومنذ تشرين الأول/أكتوبر 2019، استُهدفت سفارات وقوات ومنشآت أجنبية في مختلف أنحاء العراق، بنحو 90 هجوما صاروخيا عنيفا وقنابل زرعت على جوانب الطرقات.