حماة - في سوق بمدينة حماة وسط سوريا، تمتلئ الأكياس بالكمأ الصحراوي، وهو نبات موسمي يخاطر السكان بحياتهم لجمعه متحدين هجمات تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) والألغام الأرضية.
ويتم جمع الكمأ وهو نوع من الفطريات في المناطق الصحراوية بعد هطول الأمطار. ويتم طهوه بطرق عدة، محمص أو مطهي أو مشوي أو مقلي أو محشو أو في السلطة أو الحساء أو مع اللحم أو البيض، ويمكن حتى تناوله وحده.
وقال البائع محمد صالحة، 31 عاما، وهو يستعرض الكمأ التي أمضى أسبوعا يجمعه بالقرب من قريته، "هذا طعام شهي مغموس في الدم".
وأضاف والهالات السوداء تغلف عينيه المرهقتين "كل يوم أغادر منزلي دون أن أعرف ما إذا كنت سأعود إلى زوجتي وابنتي. نحن نجازف بحياتنا... لكننا لم نعد نهتم، فنريد إطعام أطفالنا".
وبين شباط/فبراير ونيسان/أبريل، يخرج مئات السوريين الفقراء للبحث عن النبات الشهي في صحراء سوريا الشرقية الشاسعة (البادية)، وهي مخبأ معروف للعناصر المتطرفة وتنتشر فيها الألغام الأرضية.
وذكر المرصد السوري لحقوق الإنسان أن هذا الموسم شهد حتى الآن مقتل ما لا يقل عن 150 من صيادي الكمأ،. وأضاف أن تنظيم داعش قتل يوم الخميس، 23 آذار/مارس، ما لا يقل عن 15 شخصا بقطع حناجرهم وبينهم 7 مدنيين، وذلك أثناء بحثهم عن كمأ الصحراء في محافظة حماة. وفقد 40 آخرين في أعقاب الهجوم.
وفي 17 شباط/فبراير، قتل 68 شخصا في كمين نصبه متطرفون كانوا على دراجات نارية، وذلك خلال بحثهم عن الكمأ في الصحراء شرقي حمص وعند نقطة تفتيش، وهو أعنف حادث من نوعه في أكثر من عام.
وقال ناشطون إن الميليشيات التابعة للحرس الثوري الإيراني تبتز أيضا صيادو الكمأ وتجبرهم على بيع منتجاتهم بأسعار منخفضة للغاية.
وفي هذا الإطار، ذكر الناشط أيهم العلي وهو من دير الزور للمشارق، أن "هذه الميليشيات تجبر [صيادي الكمأ] على بيع محصولهم بأقل من نصف سعر السوق أو التنازل لها عن ثلثه".
وقال ناشط إعلامي لموقع العربي الجديد في 10 آذار/مارس، إن 12 مدنيا خطفوا خلال بحثهم عن الكمأ في الصحراء.
وأوضح أن مسلحين مجهولين يعتقد أنهم ينتمون إلى ميليشيات مدعومة من إيران، كانوا على متن دراجات نارية واختطفوا 12 شخصا في منطقة نادرة بجبل البشري جنوبي غربي دير الزور، فيما تمكن 5 غيرهم من الفرار.
’ملابس ملطخة بالدماء‘
ويشتهر كمأ الصحراء السورية بجودته العالية ويباع بأسعار باهظة.
وفي سوق حماة، يمكن أن يصل سعر الكيلوغرام الواحد منه إلى 25 دولارا وذلك بحسب حجمها ودرجة جودته، علما أن متوسط الأجر الشهري في البلد يبلغ نحو 18 دولارا.
وذكر صالحة بابتسامة ممتعضة، "نحقق أرباحا كبيرة خلال موسم الكمأ الذي يمتد على شهرين، لكننا نجازف بحياتنا".
ويخرج الكمأ الكبير والصغير من السلال والصواني وأكياس الخيش، وبعضه على صناديق بلاستيكية فيما البعض الآخر وضع مباشرة على ممر المشاة.
وهتف واحد من عشرات البائعين "مزاد! امزاد!"، فيما احتشد حوله مشترو الجملة للمزايدة على 50 كيلوغراما من الكمأ.
وافتتح البائع عمر البوش المزاد بما يعادل 4.50 دولار للكيلوغرام بالليرة السورية، وسرعان ما تضاعف السعر تقريبا.
وقال البوش "لدينا أنواع من الكمأ تناسب ذوي الدخل المتوسط. وتفضل بعض العائلات شراء الكمأ بدلا من اللحوم".
ويتم جمع أنواع مختلفة من الكمأ في الصحراء التي تمتد عبر وسط سوريا إلى الحدود الشرقية مع العراق.
وقال الباعة إن الكمأ الأسود الموجود في المناطق الصحراوية بمحافظتي حماة وحلب يسجل أعلى الأسعار.
وذكر تاجر الجملة جمال الدين دكاك وهو من دمشق أن بعض التجار اشتروا كمأ عالي الجودة وصدروه إلى العراق ولبنان، وتحدثت معلومات عن تهريب كمية أخرى إلى دول الخليج عبر الأردن.
أما البائع يوسف صفاف، فقال إنه اشترى الكمأ من البدو الذين يأتون إلى حماة صباحا، وكانت "ملابس [بعضهم] ملطخة بالدماء".
وتابع "فقد البعض أفراد عائلاتهم أثناء جمع الكمأ، لكنهم يواصلون فعل ذلك... لأنه ليس لديهم خيار آخر. هناك ألغام أرضية وقطاع طرق ومساحات شاسعة" تتواجد فيها داعش.
ولفت إلى أن "الناس يضحون بحياتهم... فقط لإعالة أنفسهم".
’مثل لعبة الورق‘
ويجازف جامعي الكمأ بحياتهم رغم التحذيرات المتكررة التي تتناقلها وسائل الإعلام السورية.
وفي تقرير صدر مطلع الشهر الجاري، حذر مصدر عسكري الناس من صيد الكمأ "إذ أنه بعض المناطق لم يعلن حتى الآن أنها آمنة" ونظيفة من الألغام الأرضية ومقاتلي داعش.
وفي هذا الإطار، فقد جهاد العبد الله، 30 عاما، ساقه بانفجار لغم عندما كان يقود سيارته لجمع الكمأ شرقي حماة.
ويمشي اليوم على عكازين، لكنه قال إنه ما يزال يخرج أحيانا بحثا عن هذا النبات وقضى معظم هذا الموسم في بيع الكمأ الذي جمعه إخوته.
وأكد العبد الله وهو مستلق على الأرض بالقرب من كشكه "ليس لدي ما أخسره بعد أن فقدت ساقي. أواصل عملي لكسب لقمة العيش اليومية. وأترك الباقي على الله".
ووفقا للأمم المتحدة، يعيش أكثر من 10 ملايين شخص في مختلف أنحاء سوريا بمناطق مهددة بخطر المتفجرات.
وقتلت المتفجرات المزروعة في الحقول أو على طول الطرق أو حتى في المباني من قبل جميع أطراف الصراع في سوريا 15 ألف شخص بين عامي 2015 و2022، وفقا لأرقام الأمم المتحدة.
وقال العبد الله إن جمع الكمأ مثل لعب الورق.
وأوضح "أحيانا تربح وأحيانا تخسر. إنها مقامرة قبلت القيام بها".