تصور الصين نفسها للعالم كمتفرج محايد للحرب الدائرة في أوكرانيا، رافضة إدانة الغزو الروسي من جهة ومتيقظة من جهة أخرى إزاء تقديم الدعم العلني لدولة منبوذة عالميا.
وفي الواقع، تشن بيجين نيابة عن موسكو حربا تضليلية ذات شقين.
وأصر المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية تشاو لي جيان يوم الخميس، 14 نيسان/أبريل، على أن موقف بيجين "موضوعي وحيادي" وأنه "في الجانب الصحيح من التاريخ".
وجاءت تصريحاته بعد يوم من تحذير وزيرة الخزانة الأميركية جانيت يلين، من أن الصين قد تعاني من عواقب اقتصادية لعدم مشاركتها في العقوبات الغربية ضد روسيا.
ودعت الصين إلى "المساعدة في إنهاء هذه الحرب"، مضيفة أن بيجين قد تشهد تراجعا في "موقف العالم تجاه الصين واستعدادها لاحتضان المزيد من التكامل الاقتصادي" إذا لم تتحرك قريبا.
وتتعامل بيجين مع ظرف سياسي حساس، بين دعم حليفها المقرب والحفاظ على العلاقات مع الغرب من خلال تجنب الانتهاكات الصريحة للعقوبات المفروضة على روسيا.
ولكن عندما تعرضت دعاية الكرملين لضربة في آذار/مارس حين عمدت أوروبا ودول أخرى حول العالم إلى حظر القنوات الإخبارية الروسية وحسابات وسائل التواصل الاجتماعي الرسمية الروسية أو تقييدها، قدمت وسائل الإعلام الصينية التي تسيطر عليها الدولة منبرا فاعلا لسردية الكرملين.
وفي الوقت عينه، شن الحزب الشيوعي الصيني حملة في الداخل لحشد التعاطف مع روسيا باعتبارها ضحية معاناة طويلة مع الهيمنة الغربية.
الكرملين يتحايل على أعمال حظر دعايته
وبعد أيام فقط من الغزو الروسي لأوكرانيا، أعلنت المفوضية الأوروبية فرض حظر على وسائل الإعلام الحكومية الروسية. كما عمدت مواقع فيسبوك وتويتر وتيك توك ويوتيوب إلى إغلاق وسائل الإعلام التي يسيطر عليها الكرملين أو تقييد الوصول إليها، بما في ذلك آر.تي وسبوتنيك.
ونتيجة لذلك، سارعت موسكو لإيجاد حلول لذلك.
وفي إحدى الحالات، كشف صحافيون مستقلون عن مخطط منسق للدفع للمؤثرين في تيك توك لكي يروجوا للآراء المؤيدة للكرملين. وفي حالة أخرى، وثق باحثون من تريمنتوم أناليتيكس متصيدون يرسلون مقاطع فيديو على يوتيوب حول أوكرانيا مرفقة بتعليقات مؤيدة لروسيا، حسبما ذكرت صحيفة واشنطن بوست في 8 نيسان/أبريل.
كما استخدمت السفارات الروسية في مختلف أنحاء العالم منصاتها لنشر معلومات مضللة لعشرات الآلاف من المتابعين على تويتر ويوتويب وفيسبوك وتليغرام.
وبسبب فرضه قيودا أقل، بات تليغرام خيارا شائعا. فأنشأت السفارات الروسية منذ بداية الحرب 65 قناة جديدة على تليغرام، وفقا لمجموعة الأبحاث الإسرائيلية فايك ريبورتر المعنية بالمحتويات المضللة.
وقال بريت شيفر وهو أحد كبار الباحثين ورئيس فريق التلاعب بالمعلومات في التحالف من أجل تأمين الديمقراطية، وهي مبادرة غير حزبية مقرها صندوق مارشال الألماني الأميركي تتتبع وسائل الإعلام الحكومية الصينية والروسية، "مع تحرك الحكومات ومنصات التكنولوجيا لفرض الرقابة على الدعاية الروسية أو الحد من انتشارها، تتم الآن إعادة تحويل المواضيع المؤيدة للكرملين من خلال المؤثرين والوكلاء، بما في ذلك عدد من المسؤولين الصينيين ووسائل الإعلام الحكومية الصينية".
وأضاف لصحيفة واشنطن بوست إن وسائل الإعلام الصينية "لا تواجه القيود نفسها التي تم فرضها على وسائل الإعلام الحكومية الروسية".
وتابعت "سمح ذلك للكرملين بأن يتجنب بشكل فعال الحظر الذي يهدف إلى الحد من انتشار الدعاية الروسية".
منابر صينية
وقال محللون إن وسائل الإعلام الصينية هي إلى حد بعيد أكبر ناشري الدعاية الروسية.
وحصدت وسائل الإعلام الحكومية الصينية الأربعة الأولى أي سي.جي.تي.إن وغلوبال تايمز وشينخوا نيوز وتي-هاوس، جمهورا هائلا مع 283 مليون متابع على فيسبوك وحده، وفقا للمركز البريطاني غير الربحي لمكافحة الكراهية الرقمية.
وتملك جميع القنوات التي تسيطر عليها الدولة في الصين أكثر من مليار متابع على فيسبوك وحده، وفقا للتحالف من أجل تأمين الديمقراطية، وذلك على الرغم من حظر مواقع التواصل الاجتماعي في البلد.
وحرصت وسائل الإعلام والمسؤولون في الصين على استخدام المصطلحات المفضلة للكرملين عند الحديث عن أوكرانيا.
وعندما أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الهجوم على أوكرانيا في 24 شباط/فبراير، أصرت شينخوا على وصفه بـ"العملية العسكرية" وعلى القول إن موسكو "ليس لديها نية" لاحتلال الأراضي الأوكرانية.
وبدا أيضا توجيه أصدر لوسيلة إعلام تابعة للدولة وتم تداوله عبر الإنترنت في شباط/فبراير، وكأنه يأمر بعدم نشر المنشورات المناهضة لروسيا أو تلك التي تعرض محتوى مؤيدا للغرب.
ومن بين الروايات الكاذبة الأخرى التي نشرتها وسائل الإعلام الصينية سرديات حول النازيين الجدد وإلقاء اللوم في اندلاع الحرب على "توسع الناتو باتجاه الشرق" ومحاولة مساواة الغزو الروسي لأوكرانيا بالأعمال العسكرية الأميركية في العراق وسوريا وأفغانستان.
وزعمت القنوات الصينية زورا أن الولايات المتحدة تدير مختبرات للأسلحة البيولوجية في أوكرانيا وأن النازيين الجدد الأوكرانيين قصفوا مستشفى للأطفال، في حين أن هذا الأخير تعرض حقيقة لقصف من القوات الروسية.
إلى هذا، نشر القنصل العام الصيني في إيرلندا الشمالية تغريدة كاذبة نقلا عن وسائل إعلام حكومية روسية تفيد أن الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي مختبئ في بولندا.
بوتين ’البطل‘
وفي هذه الأثناء، أفادت صحيفة نيويورك تايمز في 4 نيسان/أبريل أنه تم تداول فيلم وثائقي من إنتاج الحزب الشيوعي الصيني في صفوف المسؤولين، يصور بوتين على أنه "بطل" .
ومستخدما الموسيقى والصور المؤثرة، يثني الفيلم الوثائقي على بوتين لتجديده الفخر الوطني لدى الروس بالتاريخ السوفيتي وإعادة مكانة جوزيف ستالين كقائد عظيم في زمن الحرب.
وجاء في الوثائقي أن عمليات التطهير التي قام بها ستالين ذهبت إلى أبعد من اللازم، لكنها في البداية "كانت عملية ضرورية" نظرا للتهديدات التي كان الحكم السوفيتي يتعرض لها.
وخلال حملة التطهير الكبير التي نفذها ستالين في ثلاثينيات القرن الماضي، أرسل الديكتاتور السوفيتي ما وصل إلى 3 ملايين مواطن إلى الموت في معسكرات العمل الجبري في جولاج، وأمر بإعدام مليون شخص على الأقل لمعارضتهم سياساته أو لمجموعة متنوعة من الجرائم المتخيلة، وفقا للمؤرخ والمؤلف في جامعة ييل تيموثي سنايدر.
وخلال مرحلة المجاعة التي امتدت من 1930 إلى 1933، مات أكثر من 5 ملايين شخص.
ويعزو بعض المؤرخين وفاة 20 مليون شخص إلى حكم ستالين في جميع أنحاء الاتحاد السوفيتي.
وعمل عدد من الأفلام وكتب التاريخ والإجراءات القضائية في كازاخستان وقيرغيزستان وأوزبكستان على زيادة الوعي بإرث ستالين الوحشي.
واكتمل الفيلم الوثائقي الذي أعده الحزب الشيوعي الصيني العام الماضي وهو لا يذكر الحرب في أوكرانيا، لكنه يطرح أن روسيا محقة في تخوفها من جيرانها الذين كانوا سابقا جزءا من الاتحاد السوفيتي.
وذكر أنه منذ انهيار الاتحاد السوفيتي، "أصبحت بعض البلدان في أوروبا الشرقية وآسيا الوسطى ومنطقة القوقاز مواقع متقدمة للغرب لاحتواء روسيا والتدخل فيها".
وأضاف راوي الفيلم الوثائقي ذو الصوت القاسي نقلا عن باحث روسي، أن "أقوى سلاح يمتلكه الغرب دون الأخذ بعين الاعتبار الأسلحة النووية، هو الأساليب التي يستخدمها في الصراع الأيديولوجي".
قصة تحذيرية
ولطالما استخدمت بيجين الفشل السوفيتي كقصة تحذيرية، لكن قام الرئيس الصيني شي جين بينغ بإضفاء طابع أكثر خطرا عليها.
وقال رئيس مجموعة استراتيجيات الصين في واشنطن العاصمة والمحلل السابق في وكالة المخابرات للسياسة الصينية كريستوفر ك. جونسون، "يصدقون حقا روايتهم الخاصة عن الثورات الملونة ويميلون إلى رؤية هذا الوضع برمته باعتباره ثورة ملونة بقيادة الولايات المتحدة للإطاحة ببوتين".
وذكر جونسون لصحيفة نيويورك تايمز أنه "على الصعيدين المحلي والدولي، يروج شي لهذه الرواية القاتمة منذ أن تولى السلطة. فهي تسمح له بتبرير سلطته المتزايدة والتغييرات التي قام بها من خلال خلق هذا الشعور بالنضال والخطر."
وبالإضافة إلى الفيلم الوثائقي، نظمت الجامعات الصينية صفوفا تهدف إلى إعطاء الطلاب "فهما صحيحا" للحرب الدائرة في أوكرانيا.
وتؤشر محاضرات التلقين هذه إلى قلق المسؤولين من أن يتقبل الشباب الصيني المتعلم الانتقادات التي توجه لموقف بيجين من روسيا.
ومن المنطقي أن تشعر بيجين بالقلق، ذلك أن بعض الانقسامات بدأت تظهر داخل الحزب.
وفي هذا السياق، انتقد الباحث الذي يتمتع بعلاقات سياسية قوية في شنغهاي، هو وي، رفض بيجين إدانة بوتين في مقال نشر لأول مرة على الموقع الأميركي-الصيني برسبشون مونيتور يوم 12 آذار/مارس.
وانتشر المقال على الإنترنت وحظي بالثناء من بعض القراء. ولكن حجبت السلطات الموقع في الصين وحاولت حظره على مواقع التواصل الاجتماعي.
وكتب هو أن الحرب في أوكرانيا "أشعلت [في الداخل الصيني] خلافات هائلة ووضعت المؤيدين والمعارضين على طرفي نقيض".
وحذر من أن "الصين يجب ألا تتزلف لبوتين وعليها أن تنأى بنفسها عنه بأسرع ما يمكن".