نيويورك - تسبب توقيف رجلين مؤخرا بتهمة إنشاء "مركز شرطة" صيني في نيويورك بجذب الانتباه مجددا إلى مخطط أوسع نطاقا تضعه بيجين لإنشاء مراكز شرطة سرية في بلدان حول العالم.
واتهم الرجلان في منتصف شهر نيسان/أبريل بالعمل كعملاء غير مسجلين لصالح حكومة أجنبية وعرقلة مجرى العدالة عبر إتلاف أدلة اتصالاتهما مع المسؤولين الصينيين.
وكانا قد قاما بإنشاء المكتب في منطقة تشاينا تاون بمدينة نيويورك العام الماضي بناء على طلب من فرع فوزهو في وزارة الأمن العام وهي قوة الشرطة الوطنية الصينية، بحسب ما ذكره المدعي العام الفدرالي في بروكلين بريون بيس.
وفي حين أن المكتب قدم بعض الخدمات مثل مساعدة المواطنين الصينيين في تجديد رخص القيادة الصينية الخاصة بهم، إلا أن وظيفته الأساسية كانت بالمساعدة في تتبع المعارضين الهاربين من جمهورية الصين الشعبية ومضايقتهم، حسبما ذكر مسؤولون أميركيون.
وقال ديفيد نيومان مساعد المدعي العام للأمن القومي في وزارة العدل الأميركية إن "وزارة الأمن العام أنشأت مركزا فعليا وهو مركز شرطة سري هنا في نيويورك، لمراقبة وترهيب المعارضين والمنتقدين الآخرين لجمهورية الصين الشعبية في واحدة من أكثر مجتمعات المهاجرين حيوية في الولايات المتحدة".
وجاءت عملية توقيف الرجلين إلى جانب اتهامات غيابية ضد 34 ضابط شرطة صيني متهمين باستخدام مواقع التواصل الاجتماعي لاستهداف منتقدي الصين في الولايات المتحدة.
حملة رقابية غير قانونية على مستوى العالم
وقد تم الكشف عن الحملة الصينية العالمية في أيلول/سبتمبر في تقرير صدر عن منظمة حقوق الإنسان سيفغارد ديفندرز ومقرها إسبانيا.
وأشار التحقيق إلى أنه تم إنشاء 54 مركزا على الأقل تديرها الشرطة الصينية في الخارج لتنفيذ "عمليات رقابية غير قانونية على الأراضي الأجنبية".
وفي تقرير متابعة صدر بتاريخ 5 كانون الأول/ديسمبر، حددت سيفغارد ديفندرز ما لا يقل عن 48 مركز شرطة صينيا آخر في الخارج، ما يرفع العدد الإجمالي إلى 102 مركز في 53 بلدا.
وقالت السلطات الصينية إن "مراكز الخدمة الخارجية" فتحت خلال جائحة كوفيد-19 لمساعدة المواطنين بالخارج في تجديد رخص القيادة ومسائل أخرى مماثلة.
ولكن وثق التحقيق مراكز الشرطة التي أنشأتها مكاتب الأمن العام في كينجتيان (مقاطعة جيجيانغ) وفوزهو (مقاطعة فوجيان) بدءا من عام 2018.
وقد أنشأت مكاتب الأمن العام في نانتونغ (مقاطعة جيانجسو) وونزهو (مقاطعة جيجيانغ) الغالبية العظمى من المراكز التي وثقت مؤخرا اعتبارا من العام 2016، ما يدحض بصورة مباشرة المزاعم التي تفيد بأن المراكز أقيمت في أعقاب الجائحة.
ويتمثل دليل إضافي يدحض مزاعم بيجين في ما قالته حكومة مقاطعة فوجيان في إصدار صحافي نشر في شباط/فبراير 2002، عن قيامها بإنشاء أول 30 "مركز خدمة خارجية تابع لشرطة فوزهو" في 5 قارات.
مواقع سوداء سرية
وقد وافقت بعض البلدان المستضيفة بصورة صريحة على إنشاء "مراكز الشرطة" هذه، وتتعاون وكالات إنفاذ القانون المحلية والتمثيل الدبلوماسي الصيني بصورة وثيقة مع المراكز في تلك المواقع، حسبما ذكر التقرير.
وتعد الإمارات مثالا على ذلك، بحيث يعمل فيها مركزين صينيين اثنين على الأقل بالتعاون مع السلطات المحلية.
ولكن كشفت السلطات الإماراتية في الماضي عن "مواقع سوداء تديرها وكالات الاستخبارات الصينية واستخدمت كمراكز احتجاز وتحقيق"، وفق ما ذكره ضابط متقاعد بالجيش الإماراتي يستخدم الاسم المستعار ياسر حسان.
وقال حسان إن الاتفاقيات الإماراتية-الصينية تعطي الشرطة الصينية حرية عمل كبيرة، "بما في ذلك حرية التحرك في الإمارات و[القدرة] على تنفيذ عمليات استطلاع ومراقبة والتوقيف عند الضرورة".
وتابع أن "السلطات الإماراتية اعتقلت العديد من المعارضين أو مسلمي الإيغور وقامت بترحيلهم إلى الصين".
هذا واحتجزت بيجين أكثر من مليون شخص من مجتمع الإيغور وغيرهم من السكان الناطقين باللغة التركية وغالبيتهم من المسلمين في منطقة شينجيانغ بأقصى غرب البلاد، في شبكة سرية من مراكز الاحتجاز والسجون خلال السنوات القليلة الماضية.
وتتضمن قائمة الاتهامات الاحتجاز الجماعي والعمل القسري والتعقيم الإجباري والاغتصاب الممنهج وتدمير المواقع الثقافية والإسلامية التابعة للإيغور.
وأوضحت سيفغارد ديفندرز في تقريرها الصادر بشهر كانون الأول/ديسمبر أنه "في بلدان أخرى وحيثما كانت مثل هذه الموافقة (أو بدت) غائبة، يبدو أن السلطات الصينية استخدمت، أو أساءت استخدام، آليات التعاون الرقابي الثنائية لتعزيز أهدافها السرية".
وأضاف التقرير في إشارة إلى اتفاقية فيينا للعلاقات القنصلية لعام 1963، أن "إنشاء مراكز الشرطة الخارجية الصينية بدون موافقة البلد المستضيف يشكل انتهاكا خطيرا للسيادة المناطقية والقضائية، حتى لو كانت ستقدم ʼفقطʻ خدمات قنصلية مثل تجديد جوازات السفر أو رخص القيادة".
وذكر التقرير أن "مراكز الشرطة" تلك تندرج في الواقع ضمن جهود النظام الصيني الرامية إلى "مضايقة الأهداف وتهديدهم وترهيبهم وإجبارهم على العودة إلى الصين لاضطهادهم".
مخاوف أهالي آسيا الوسطى
وفي هذا السياق، عبّر سكان ومواطنو آسيا الوسطى عن قلقهم إزاء الأخبار، نظرا لقرب بلادهم من الصين وتزايد نفوذ بيجين في المنطقة.
وبحسب سيفغارد ديفندرز، يوجد مركز شرطة واحد على الأقل يديره مكتب الأمن العام في فوزهو في سيرداريا بأوزبكستان.
وقالت نيغارا خيدوياتوفا وهي محللة سياسية أوزبكية مقيمة في الولايات المتحدة، إن التقرير "يقدم دليلا على الممارسة الصينية واسعة النطاق للقمع العابر للحدود".
وأضافت أن "عمل الاستخبارات الصينية يهدف فعليا لإيجاد المعارضين الإيغور. ولهذا السبب ينشر الصينيون مواطنين إيغور موالين لهم في الأسواق الشعبية ببلدان آسيا الوسطى. وتقوم وكالات الأمن الصينية بتجنيد مقدمي خدمات النقل المحليين في قيرغيزستان وتمولهم وتعطيهم كل المزايا الممكنة في الأسواق ليقوموا بجمع المعلومات حول المعارضين الإيغور".
وتابعت أنها تعرف مواطنا صينيا واحدا على الأقل تم سجنه لأكثر منذ أكثر من 10 سنوات بتهمة "التجسس".
وبدوره، قال المحلل السياسي الأوزبكي بولات أخونوف المقيم في السويد، "لا أستبعد وجود مراكز [شرطة صينية] في أوزبكستان وكازاخستان".
وأضاف أن "واجبات مراكز الشرطة هذه تتركز بصورة أساسية على تتبع المواطنين الصينيين الذين يعيشون في بلادنا والكشف عن التهديدات الموجهة للصين من قبل جماعات قومية ودينية مناهضة لها".
وتابع أنه من المرجح أيضا أنهم يقومون "بتجنيد المسؤولين والمواطنين العاديين في بلادنا لضمان تغلغل صيني أعمق... بهدف بسط السيطرة على الدولة".
وفي الإطار نفسه، قال المحلل الأوزبكي عليشير إلخاموف المقيم في لندن إنه "من الواضح أن الصين أنشأت مركز شرطة في أوزبكستان لمعرفة ما إذا كان هناك مواطنون إيغور قادمين من الصين، وفي هذه الحال لمعرفة المسار الذي يتخذونه ومن يوفر لهم المساعدة من أفراد أو مجموعات".
وأضاف أنه إذا كانت أوزبكستان تساعد الصين في اضطهاد الإيغور "فسيكون ذلك أمرا مشينا بالنسبة للسلطات الأوزبكية"، مشيرا إلى أن الإيغور قريبون جدا عرقيا وثقافيا من الأوزبك وأن أوزبكستان تضم هي أيضا أقلية من الإيغور.
ʼسوء نيةʻ
ولاقت هذه المسألة أيضا انتقادا من ستانلي كيولي، 47 عاما، وهو تاجر كيني في الواردات الصينية.
وقال إن "قيام الصين بفتح مراكز شرطة سرا في بلدان أجنبية يعني أنها لا تثق بالإجراءات الرقابية في البلدان المستضيفة".
وأضاف أن "مثل هذه العملية تشكل إهانة وتنم عن سوء نية. فكيف سيكون رد الفعل إذا حذت بلدان أخرى الحذو نفسه وقامت بفتح مراكز غير قانونية مماثلة في بيجين أو مدن صينية أخرى؟ من المؤكد أن الصين ستتخذ في مثل هذه الحال إجراءات مشددة ضد مراكز مشابهة مع سجن مشغلي تلك المراكز لفترات طويلة من الزمن".
ومع أن كينيا ليست على قائمة البلدان التي يعرف أنها تستضيف مراكز شرطة صينية، إلا أن بعض الشخصيات البارزة والسياسيين أثاروا شكوكا في هذه المسألة.
ووفقا لسيفغارد ديفندرز، فإن دولة تنزانيا المجاورة تضم واحدا من مراكز الشرطة الصينية السرية.
وعلق جوزيف توندو البالغ من العمر 38 عاما وهو تاجر أرز تنزاني مقيم في نيروبي بكينيا، على الموضوع قائلا "أنكر سفيرنا في الصين السيد [مبلوا] كايروكي هذه المزاعم".
وأضاف "آمل أن تكون هذه هي الحال"، ولكنه تابع "لا يمكن للمرء أن يصدق بنسبة مائة في المائة [المعلومات] التي تقدمها لنا حكوماتنا الإفريقية".
ومن جانبها، قالت مرسي ناسيشي، 31 عاما، وهي معلمة بمدرسة ابتدائية في أوغندا كانت تقضي عطلتها في نيروبي، إن الصين "تقوض سيادة البلدان عبر إنشاء مراكز شرطة بالخارج تكمن مهمتها الوحيدة في تتبع الصينيين ومراقبتهم وتهديدهم وترهيبهم ومضايقتهم".
وتساءلت عن نوع "المهام البيروقراطية" التي تنفذها تلك المراكز الخارجية والتي لا تستطيع السفارات أو القنصليات الصينية القيام بها.
وقالت في إشارة إلى عمليات التوقيف التي جرت مؤخرا في نيويورك، "إذا كان العملاء بهذه الجرأة لفتح مركز غير قانوني مشابه [في الولايات المتحدة]، فماذا عن البلدان الأفريقية الفاسدة؟ يعني ذلك أن الصينيين لديهم عدد لا يحصى من تلك المراكز المموهة على شكل [مراكز خدمات] قنصلية أو ʼمكاتب لمساعدة المواطنين الصينيين في معاملات وثائق السفرʻ".
وتابعت "نعرف جميعا أن الحكومة الصينية تنتهج السرية في كل تعاملاتها، ولا نتوقع منها أن تعترف علانية للعالم بوجود مراكز الشرطة تلك".
[شارك في إعداد التقرير كل من وليد أبو الخير في القاهرة ورستم تيمروف في طشقندوجوليو كيثس في نيروبيووكالة الصحافة الفرنسية]