حلّ الموعد النهائي الذي فرضته الأمم المتحدة لانسحاب القوات الأجنبية من ليبيا ومضى دون أن يصاحبه أي مؤشر على اعتزام روسيا الالتزام به.
بل على العكس، يعد إنشاء مرتزقه مجموعة فاغنر التي تدعمها روسيا لشبكة ضخمة من الخنادق عبر ليبيا ظاهرة تثير المخاوف بشأن أهداف روسيا بعيدة المدى في الدولة التي مزقتها الحرب.
وأوضح مسؤول في الاستخبارات الأميركية لشبكة سي إن إن، أن الخنادق تدل على أن مجموعة فاغنر "تعتزم الاستقرار فترة طويلة"، علماً أن فاغنر هي منظمة شبه عسكرية تخدم مباشرة أجندة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
فاستخدام هذه المجموعة يسمح للكرملين بتعزيز مصالحه وتنفيذ حربه الهجينة تحت ستار سياسة الإنكار المقبول.
ومجموعة فاغنر تنفذ عمليات عسكرية في البلدان التي للكرملين مصالح استراتيجية وجيو-سياسية فيها، وثمة مشاهد متشابهة نراها في الكثير من البقاع الساخنة حول العالم حيث تريد موسكو تعزيز نفوذها، بما فيها جمهورية أفريقيا الوسطى وأوكرانيا والسودان وسوريا وفنزويلا وغيرها.
وأضاف المسؤول في الاستخبارات أن أكبر وجود خارجي لشركة فاغنر هو في ليبيا.
لا خطط لمغادرة ليبيا
هذا وتمتد شبكة الخنادق التي يمكن رؤيتها عبر صور الأقمار الاصطناعية من مدينة سرت الساحلية نحو معقل فاغنر في الجفرة على مسافة تبلغ 70 كلم تقريبا، وهي مدعومة بتحصينات دقيقة ومدروسة، حسبما أوردت شبكة سي إن إن يوم 22 كانون الثاني/يناير.
وينص اتفاق سلام أبرم بوساطة الأمم المتحدة بين حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دوليا والجيش الوطني الليبي الذي تدعمه روسيا بقيادة الجنرال خليفة حفتر، على مغادرة كل القوات الأجنبية البلاد بحلول 23 كانون الثاني/يناير.
وخلال اجتماع لمجلس الأمن الدولي حول ليبيا يوم 28 كانون الثاني/يناير، قال القائم بأعمال السفير الأميركي في الأمم المتحدة ريتشارد ميلز "ندعو الأطراف الخارجية كافة... لاحترام السيادة الليبية وإنهاء كل التدخلات العسكرية في ليبيا فورا".
ودعا أيضا إلى "سحب المرتزقة الأجانب والوكلاء العسكريين الذين قاموا بتجنيدهم ونشرهم وتمويلهم في ليبيا".
وتقدر الأمم المتحدة وجود نحو 20 ألف عنصر من القوات والمرتزقة الأجانب في ليبيا.
وقال وزير الدفاع في حكومة الوفاق الوطني صلاح الدين النمروش لشبكة سي إن إن، "لا أعتقد أن أي أحد يقوم اليوم بحفر خندق وينشئ هذه التعزيزات سيغادر قريبا".
من جانبها، قالت كلاوديا غازيني من مجموعة الأزمات الدولية إن حفر الخنادق "أمر مثير للقلق".
وأضافت في تصريح لسي إن إن "الأمر ما يزال مستمرا، ما يشير إلى أن موسكو حريصة على تعزيز وجودها في ليبيا".
وقال محللون إن روسيا ترى في رهاناتها في ليبيا وسيلة لتعزيز وجودها العسكري على طول منطقة جنوب البحر المتوسط وتهديد محتمل للمصالح الأوروبية ومصالح حلف الناتو، فضلا عن إمكانية استخدام المنطقة كبوابة لأفريقيا.
إلى هذا، يمثل الحصول على مكاسب من صناعة النفط الليبية مكافأة إضافية.
تحركات مريبة لطائرات في سوريا
ومن المؤشرات الأخرى على تحويل الكرملين تركيزه وموارده إلى ليبيا هو وجود مقاتلات طراز ميغ-29 في سوريا.
ومنذ أكثر من خمس سنوات والقوات الروسية تدعم الرئيس السوري بشار الأسد.
وكانت الطائرات الروسية من طراز سو-24 قد نُشرت لأول مرة في سوريا عام 2015، ومنذ ذلك الحين اعتبرت هذه المقاتلات الحربية المنفذ الرئيس للغارات الجوية القاتلة في البلاد.
فعمليات القصف المتعمد للأهداف المدنية، بما في ذلك المستشفيات، التي قامت بها الطائرات الحربية الروسية أدت إلى مقتل نحو 7 آلاف مدني سوري وتشريد نحو مليون شخص.
لكن الأدلة الأخيرة تشير إلى تزايد نشر مقاتلات من طراز ميج-29 في سوريا، وهو تطور دفع بالمراقبين إلى التساؤل عن السبب الذي يدفع روسيا لنشرها بعد سنوات عديدة من قيام المقاتلات سو-24 بالمهام المطلوبة.
وييدو أن تغيير المقاتلات يوحي أن موسكو تستخدم سوريا كنقطة مرور وانطلاق للعتاد العسكري والمقاتلين المتوجهين إلى ليبيا، بحسب المحللين.
وتدعم الأدلة التي تراكمت طيلة العام المنصرم صحة هذه المزاعم.
ومطلع الشهر الجاري، كشفت وسائل الإعلام الروسية مستخدمة صور أقمار اصطناعية، وجود ست مقاتلات جوية من طراز ميغ-29 مجهولة التبعية في قاعدة حميميم الجوية الروسية بسوريا.
وفي شهر أيار/مايو الماضي، وثق إرسال الكرملين 14 مقاتلة ميغ-29 وسو-24 إلى ليبيا عبر سوريا دعما لحفتر ومجموعة فاغنر.
وفي حينه، قالت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا في بيان، إن "المقاتلات الروسية وصلت إلى ليبيا من قاعدة جوية في روسيا بعد أن حطت في سوريا، حيث يعتقد أنه أعيد دهنها للتغطية على مصدرها الروسي".
وقال قائد القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا، الجنرال ستيفن تاونسند، إنه "لا الجيش الوطني الليبي ولا الشركات العسكرية الخاصة يمكن أن يسلحا هذه المقاتلات ويشغلانها ويبقيان عليها في الخدمة دون دعم من دولة، ويحصلون على هذا الدعم من روسيا".
وفي شهر تموز/يوليو، نشرت القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا صورا لأقمار اصطناعية تظهر أن موسكو مستمرة في إمداد مجموعة فاغنر في ليبيا بطائرات مقاتلة وعربات مدرعة وأنظمة دفاع جوي وإمدادات.
وفي هذه الأثناء، كانت مجموعة فاغنر تنسق حملة تجنيد ضخمة للشباب السوري للقتال كمرتزقة في ليبيا بمساعدة حزب سياسي يدعمه نظام الرئيس بشار الأسد.
إفراط في التمدد؟
ولدى الأسد سبب للتساؤل ما إذا كان بوتين ملتزما حقا بسوريا أم أنه يستخدم بلده فقط كمحطة ملائمة على الطريق لدعم حروب الكرملين بالوكالة في مناطق أخرى.
ومنذ أن ألقت موسكو بثقلها في سوريا عام 2015، أخذت على عاتقها عدة التزامات جديدة مكلفة.
فقد دخلت مجموعة فاغنر إلى ليبيا عام 2018 وهي الآن تدعم حفتر للعام الثالث.
وتقود موسكو أيضا منذ العام 2018 هجوما سياسيا وماليا في جمهورية أفريقيا الوسطى مقابل تنازلات تقدم لشركاتها لاستغلال الثروة المعدنية بالبلاد، ولا سيما الذهب والألماس.
وفي أواخر عام 2019، أرسلت موسكو إلى جمهورية أفريقيا الوسطى 300 "مرشد عسكري"، وذلك في أعقاب تهديد المتمردين بتعطيل الانتخابات التشريعية والرئاسية. وجرت الانتخابات يوم 27 كانون الأول/ديسمبر.
بالإضافة إلى ذلك، أرسل الكرملين أسلحة إلى جمهورية أفريقيا الوسطى، ويدعم علنا الرئيس فوستان آركانج تواديرا. وقبيل الانتخابات وتحديدا في منتصف شهر تشرين الأول/أكتوبر، قامت عربات مدرعة ملفوفة بالأعلام الروسية وأعلام أفريقيا الوسطى بدوريات في شوارع العاصمة بانغي.
في عام 2020، بعد أن سحقت أذربيجان أرمينيا ومنطقة ناغورنو كاراباخ الأذربيجانية الانفصالية في حرب استمرت ستة أسابيع، أرسل الكرملين قوة "حفظ سلام" قوامها 2000 جندي. وبموجب المعاهدة التي أنهت الحرب، سيبقى الروس في أذربيجان مدة خمس سنوات على الأقل.
وفي مغامرات سبقت التدخل في سوريا، كانت القوات الروسية والانفصاليون المدعومون من روسيا يقاتلون القوات الأوكرانية في مناطق شرق أوكرانيا، كما أن القوات الروسية تحتل خمس مساحة جورجيا وتدعم دويلة ترانسنيستريا في مولدوفا.
إنكار روسي
إلا أن روسيا تنكر وجود أي عسكريين لها في ليبيا على الرغم من الأدلة الكثيرة التي تشير إلى عكس ذلك.
وفي هذا الإطار، قال متحدث باسم البعثة الروسية في ليبيا لوكالة الصحافة الفرنسية في شهر كانون الثاني/يناير "ليس لدينا عسكريون أو جنود على الأراضي الليبية. لذا، لا يوجد تدخل عسكري روسي في ليبيا".
وأضاف "إذا كان هناك أي مواطنين روس يعملون كمرتزقة، وهو الأمر الذي لا يمكن أن نستبعده بالكامل، فإنه ينبغي مخاطبة من قام بتجنيدهم لكي يسحبهم".