موسكو -- في تحول مذهل لكن غير مفاجئ، اعترف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الأسبوع الماضي بأن الكرملين "يمول بالكامل" مجموعة المرتزقة فاغنر.
ولسنوات عدة، عملت مجموعة فاغنر كـ "أحد أسوأ أسرار موسكو المحفوظة".
وكانت مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي قد قالت في 2019 إن للمجموعة هدفين رئيسين: "أن توفر للكرملين سياسة الإنكار المعقول عند نشر المقاتلين في مناطق الحرب"، وأن توفر "قدرة جاهزة لبناء النفوذ لدى الدول المضيفة".
وعبر الكشف عن الحجم الهائل للإنفاق الرسمي على خدمات فاغنر، أكد بوتين أن المجموعة كانت في واقع الأمر تعمل كذراع للدولة.
وكان قد تم نشر مرتزقة فاغنر أولا في أوكرانيا في عام 2014 حين قامت روسيا بضم شبه جزيرة القرم. وفي السنوات اللاحقة، شارك هؤلاء المرتزقة في صراعات حول العالم، بما في ذلك في سوريا وموزمبيق والسودان وفنزويلا وليبيا وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد ومالي.
وفي أفريقيا والشرق الأوسط، تم تكليف مرتزقة فاغنر بحماية مناجم الذهب والماس وحقول النفط وغيرها من الموارد الطبيعية المربحة.
وفي كثير من الحالات، سطت مجموعة فاغنر على صلاحيات قوات الأمن المحلية أو قوضتها، ويُتهم المرتزقة بارتكاب انتهاكات حقوق إنسان وجرائم حرب في أي مكان انتشروا فيه.
ومنذ نشأة مجموعة فاغنر، كانت الأدلة تشير إلى رجل الأعمال الروسي يفغيني بريغوجين كمصدر المال والنفوذ ورائها.
وكان من السهل ربط بريغوجين بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فكلاهما من مدينة سان بطرسبرغ ولديهما علاقات أعمال وروابط شخصية منذ فترة طويلة.
لكن كلاهما أنكر المشاركة في مجموعة فاغنر، إذ أن الجيوش الخاصة غير قانونية في روسيا.
تصاعد التوترات
لكن هذا الأمر تغير في أيلول/سبتمبر الماضي في إطار غزو روسيا الكامل لأوكرانيا، حين اعترف بريغوجين أخيرا بأنه يتولى قيادة المجموعة.
ومع أن بريغوجين كان في السابق شخصية غامضة تفضل البقاء خارج دائرة الضوء، إلا أن ظهوره تزايد في الأشهر الأخيرة منتقدا مقاربة موسكو وملقيا اللوم على الجنرالات الروس في الآلاف من الخسائر الروسية.
وبلغ الصراع نقطة الانهيار في عطلة نهاية الأسبوع حين قاد بريغوجين تمردا قصير الأمد قال عنه المحللون إن تداعياته ستكون دائمة.
من جانبه، دان بوتين هذا التحرك ووصفه بالخيانة، وأمر فاغنر بتسليم أسلحتها الثقيلة لوزارة الدفاع، فيما يتعين على مقاتليها إما الانضمام للجيش النظامي أو قبول المنفى في روسيا البيضاء.
لم يذكر بوتين اسم بريغوجين بالتحديد منذ التمرد، بل كان يشير للقوات المتمردة بكلمة "المتمردين".
وقال بوتين للجنود من وزارة الدفاع والحرس الوطني وجهاز الأمن الفيدرالي ووزارة الداخلية الذين تجمعوا في ساحة الكرملين للوقوف دقيقة صمت على أرواح الطيارين الذين قتلتهم فاغنر، "إنكم في واقع الأمر أوقفتم الحرب الأهلية".
ومع أن الإحصاءات تتباين، لكن بعض المصادر تقول إن المرتزقة أسقطوا ست مروحيات وطائرة حربية روسية.
وأصر بوتين على أن مرتزقة فاغنر قد رأوا أن "الجيش والشعب لم يكونا معهم".
لكن بريغوجين تفاخر، ببعض الدعم من التغطية الإخبارية، أن المدنيين استقبلوا رجاله بالهتاف والترحيب خلال تمرده قصير الأمد.
الكرملين 'مول بالكامل' فاغنر
وأجبرت محاولة "الانقلاب" التي قام بها بريغوجين، مثلما يصفها البعض، بوتين على كشف أوراقه على الطاولة فيما يتعلق بفاغنر.
وقال يوم الثلاثاء إن "الدولة دفعت لمجموعة فاغنر 86.262 مليار روبل [نحو 1 مليار دولار أميركي] لرواتب المقاتلين ومكافآت تحفيزية بين أيار/مايو 2022 وأيار/مايو 2023".
وكان يتحدث إلى مسؤولي الدفاع في تصريحات متلفزة في بداية اجتماع.
وأضاف وفقا لوكالة تاس "أريد أن أشير، وأريد أن يعرف الجميع أن الدولة أمنت تمويل مجموعة فاغنر بالكامل. لقد مولنا بالكامل تلك المجموعة من وزارة الدفاع ومن ميزانية الدولة".
لكن تصوير قادة فاغنر الآن كخونة يمثل تحولا في الرسائل التي تبعث بها الدولة الروسية. في السابق، استمتعت المجموعة بمكانة بطولية في إطار الهجوم على أوكرانيا.
وحتى أثناء انتقاده لمجموعة فاغنر في أعقاب تمرد يوم السبت، كان بوتين واضحا في عدم مهاجمة العناصر والأعضاء العاديين الذين كان قد أشاد بهم من قبل وأثنى على "شجاعتهم وبطولتهم" في أوكرانيا.
ويعتقد بعض المراقبين أن اعتراف بوتين كان الهدف منه إرسال رسالة للعناصر والأعضاء العاديين في فاغنر للتأكد من أنهم يعرفون من أين تأتي رواتبهم.
هذا ورحبت روسيا البيضاء ببريغوجين في المنفى يوم الثلاثاء، مع سعي رجل روسيا البيضاء القوي إلكساندر لوكاشنكا للحصول على الثناء لمبادرته في التوسط في تراجع فاغنر وهي على الطريق إلى موسكو.
وقال لوكاشنكا مخاطبا مسؤوليه العسكريين إنه حث بوتين على عدم قتل بريغوجين. كما انتقد تعامل روسيا مع المسألة.
في هذه الأثناء، قال الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ في لاهاي، إن الوقت ما يزال مبكرا للخروج باستنتاجات حول انتقال بريغوجين، وربما بعض قواته أيضا، إلى روسيا البيضاء، لكنه أكد أن الحلف مستعد للدفاع عن أعضائه.
وأضاف أن "الشيء الواضح بصورة مطلقة هو أننا أرسلنا رسالة واضحة لموسكو ومنسك بأن حلف الناتو متواجد لحماية كل عضو وكل شبر من أراضي الناتو".
المزيد من العقوبات
وأيضا يوم الثلاثاء، فرضت وزارة الخزانة الأميركية عقوبات تهدف لتعطيل أنشطة مناجم الذهب التي تمول مجموعة فاغنر في أفريقيا، متعهدة بمساءلة المرتزقة على الانتهاكات.
وقد كانت التدابير المتخدة ضد مجموعة فاغنر مخطط لها في السابق، لكن تم تعليقها لفترة قصيرة فيما سعي المسؤولون الأميركيون لتجنب الظهور على أنهم يدعمون بريغوجين أو بوتين.
وأكّد مساعد وزير الخزانة براين نيلسون في بيان أنّ "مجموعة فاغنر تموّل عملياتها الوحشية بشكل جزئي عبر استغلال الموارد الطبيعية في بلاد على غرار إفريقيا الوسطى ومالي".
وتابع أن "الولايات المتحدة مستمرة باستهداف مصادر عائدات مجموعة فاغنر بغية منعها من التمدّد في إفريقيا وأوكرانيا ودول أخرى".
وقبل فرض العقوبات يوم الثلاثاء، جدد الناطق باسم الخارجية الأميركية ماثيو ميلر انتقاداته لمرتزقة فاغنر.
وقال للصحافيين إن "نعتقد أن دخول فاغنر إلى أي مكان يعقبه الموت والدمار. إنهم يضرون بالسكان المحليين ويستخرجون المعادن ويبتزون المال من المجتمعات المحلية التي يعملون فيها".
وأضاف "لذا، سنستمر في حث الحكومات في أفريقيا ومناطق أخرى على إيقاف أي تعاون مع فاغنر".
وأوضح ميلر أن قرار لوكاشنكا للترحيب ببريغوجين يشكل "مثالا آخر على اختياره لمصالح فلاديمير بوتين واختياره لمصالح الكرملين على حساب مصالح شعب روسيا البيضاء".
يذكر أن دكتاتور روسيا البيضاء، 68 عاما، خاضع أيضا لعقوبات غربية على خلفية قمعه للمعارضين والسماح لروسيا بمهاجمة أوكرانيا العام الماضي من أراضي روسيا البيضاء.
وفي كانون الثاني/يناير، صنفت الحكومة الأميركية مجموعة فاغنر كـ "منظمة إجرامية عابرة للحدود"، ما يسمح بتطبيق أوسع للعقوبات على شبكة المجموعة المترامية حول العالم.