في ظل التظاهرات الجديدة التي نظمت على خلفية وفاة مهسا أميني قيد الاحتجاز، والتي اجتاحت إيران خلال عطلة نهاية الأسبوع، مع وقفات تضامنية شهدتها 150 مدينة حول العالم، بات النظام الإيراني يعجز أكثر فأكثر عن التحكم بالأخبار أو بالسردية المحيطة بهذه القضية.
وفي تحول غير اعتيادي للأحداث، عملت وسائل الإعلام المملوكة للدولة في إيران حتى على نقل الاشتباكات بين المتظاهرين وقوى الأمن، مع أنها تقلل من عدد المصابين والقتلى في صفوف المتظاهرين.
وبحسب منظمة حقوق الإنسان الإيرانية، فقد قتل ما لا يقل عن 92 متظاهرا حتى اليوم، كما توفي 41 آخرين في اشتباكات اندلعت أثناء تظاهرة يوم الجمعة، 30 أيلول/سبتمبر، بسبب حادثة في محافظة سيستان وبلوشستان.
وانطلقت التظاهرة المذكورة عقب اتهامات بإقدام قائد شرطة في المنطقة على اغتصاب فتاة في الـ 15 من العمر من أقلية البلوش السنية.
وفي ظل استمراره بحملته القمعية الوحشية بدعم قوي من حزب الله اللبناني، سعى النظام الإيراني إلى لعب دور الضحية متهما القوى الخارجية بتأجيج التظاهرات.
وادعى الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي يوم الأحد "فشل مؤامرة" نفذها "أعداء" البلاد لعزل إيران، حسبما نقلت وكالة الصحافة الفرنسية.
وبدوره، وصف زعيم حزب الله حسن نصر الله في خطاب يوم السبت وفاة أميني قيد الاحتجاز بأنها "حادثة غامضة" يتم استغلالها ضد طهران للتحريض على التظاهر، قائلا إن هذه التحركات لا تعكس الإرادة الحقيقية للشعب الإيراني.
وقال مراقبون إن التطورات المتواصلة تهدد جوهر أيديولوجية النظام، ولهذا السبب لا يمكن تجاهلها حتى من قبل الصحف المتشددة.
وعوضا عن فرض الرقابة على أخبار التظاهرات أو ببساطة الإشارة إليها على أنها مجرد اضطرابات، عملت وسائل الإعلام التابعة للنظام ووكالات الأخبار المملوكة للدولة على نشر التقارير والصور، من دون إظهار النساء بدون حجاب.
وتحاول وسائل الإعلام هذه إظهار الشخصيات المعروفة والمشاهير الذين وقفوا بوجه النظام وانضموا إلى المتظاهرين بصورة سلبية.
منظمة حقوقية تعرب عن ʼقلقها البالغʻ
وفي تظاهرة طلابية نظمت ليل الأحد في جامعة شريف للتكنولوجيا، وهي جامعة عريقة بطهران، واجهت شرطة مكافحة الشغب مئات الطلاب مستخدمة الغاز المسيل للدموع وبنادق كرات الطلاء وحاملة أسلحة تطلق كريات فولاذية غير فتاكة.
ونقلت وكالة مهر للأنباء أن الطلاب هتفوا بشعار "المرأة، الحياة، الحرية"، مرددين أيضا "الطلاب يفضلون الموت على الذل".
وفي هذا السياق، أعرب مركز حقوق الإنسان في إيران عن "قلقه البالغ إزاء مقاطع الفيديو الواردة من جامعة شريف وطهران اليوم والتي تظهر قمعا عنيفا للتظاهرات مع سحب المعتقلين من مواقع التظاهر بعد تغطية رؤوسهم بالكامل".
ونشرت منظمة حقوق الإنسان الإيرانية مقطع فيديو بدا وكأنه يظهر عناصر من الشرطة الإيرانية على متن دراجات نارية وهم يلاحقون طلابا في موقف للسيارات تحت الأرض مع أخذ المعتقلين الذين تمت تغطية رؤوسهم بأكياس قماشية سوداء اللون.
وفي مقطع فيديو آخر، سمعت مجموعة من الأشخاص وهي تهتف "لا تخافوا! لا تخافوا! جميعنا يد واحدة!" وقالت المنظمة إنه تم تصوير الفيديو في محطة قطار شريعتي بطهران يوم الأحد.
ومع تواصل التظاهرات للأسبوع الثالث على التوالي، تحدثت أخبار عن حالة توتر في جامعة أصفهان أيضا، في حين هزت الاشتباكات بين المتظاهرين وقوى الأمن المدن في مختلف أنحاء البلاد.
وفي مدينة ديار بكر الجنوبية الشرقية ذات الغالبية الكردية، تجمع نحو 200 شخص حاملين صور أميني.
وقفات تضامنية حول العالم
هذا وقد نظمت وقفات تضامنية مع النساء الإيرانيات في مختلف أنحاء العالم، مع تظاهرات شهدتها أكثر من 150 مدينة يوم الأحد.
وفي هذا السياق، نظم آلاف المتظاهرين مسيرة يوم الأحد في باريس للتنديد بقادة إيران، وجاء ذلك في أعقاب مسيرات واسعة أخرى في مدن تضم جاليات إيرانية كبيرة، من بينها لوس أنجلوس وتورونتو.
ومن بين الشعارات التي رفعها المتظاهرون وهم يتحدون في بعض الأوقات الأمطار الغزيرة، "انضموا إلى أول ثورة نسوية!" و"مهسا أميني اسمك هز طغيان آيات الله!".
وخرج مئات الآلاف في مسيرات تضامنية بمختلف المدن الكندية، بما في ذلك مونتريال وفانكوفر وتورونتو والعاصمة أوتاوا.
وفي كندا، بثت قناة سي.بي.سي العامة يوم السبت صورا من تورونتو لسائقي دراجات نارية وقد أطلقوا زماميرهم دعما للمتظاهرين الذين تجمعوا على مسافة 5 كيلومترات وهم يرتدون قمصانا كتب عليها "العدالة لمهسا أميني" ورافعين الأعلام الإيرانية.
وفي مونتريال، قامت عدة نساء بقص شعرهن في حين رفع أكثر من 10 آلاف شخص لافتات كتب عليها "العدالة" و"لا للجمهورية الإسلامية" وهتفوا قائلين "ارفعوا اسمها عاليا. ارفعوا اسمها عاليا."
كذلك، نظم اعتصام يوم السبت في العاصمة واشنطن حيث تجمع مئات أبناء المجتمع الكردي أمام بوابات البيت الأبيض.
كما خرج مئات المتظاهرين إلى الشوارع يوم الأحد في تركيا، حيث رفعت النساء الورود الحمراء مع لافتات كتب عليها "المرأة، الحياة، الحرية".
إدارة مجبرة على اعتماد مقاربة مختلفة
في هذه الأثناء، لم يسع رئيسي وإدارته للتخفيف من حدة كلماتهم، بل استمروا في التأكيد بأنهم سيواصلون معاقبة المتظاهرين، واصفين إياهم بالخارجين عن القانون.
ولكن الجمهورية الإسلامية ووسائل الإعلام المملوكة للدولة أجبرت على اختيار مقاربة مختلفة خلال سلسلة التظاهرات هذه التي انطلقت مع مطالب بحرية المرأة وتواصلت بقيادة نسوية.
وفي حين أنه لا يزال يلوم "العدو" والإعلام الأجنبي على تأجيج التظاهرات المتواصلة، لم يعد النظام قادرا على التصرف وكأن الوضع طبيعيا وتحت السيطرة كما فعل في التظاهرات التي اندلعت بسبب أسعار الوقود عام 2019.
وقال صحافي متمرس مقيم في شيراز طلب عدم ذكر اسمه للمشارق إن "موقف الإعلام المتشدد مختلف نوعا ما هذه المرة. ففي حين أنه يدين التظاهرات، إلا أنه لا يستطيع نفيها أو تجاهلها بعد الآن".
وتابع "عوضا عن ذلك، حاول البعض حتى تسليط الضوء على شخصيات معروفة خلعت الحجاب، وكأن ذلك سيجعلها أقل شعبية".
ولا يتم فقط الهتاف بشعارات قاسية ضد النظام في هذه التظاهرات، فهي تظهر أيضا على الجدران بطلاء الرذاذ ويتم طبعها من جديد فور محوها من قبل القوى الأمنية، وذلك في خطوة شجاعة وخطرة لم تظهر بهذا القدر في التظاهرات السابقة.
وأشار مراقبون إلى أن عدم تحرك "شرطة الأخلاق" في التظاهرات أمر لافت، إذ يعكس حالة الفوضى التي يعيشها النظام مع محاولته قمع المتظاهرين على نطاق أوسع.
وذكروا أن شرطة الأخلاق تقوم عادة باعتقال النساء على الفور في أي انتهاك بسيط لقواعد اللباس المفروضة.
ويستخدم العديد من الإيرانيين أسلوبا جديدا للتعبير عن غضبهم، فيظهرون عند النوافذ أو على شرفات منازلهم هاتفين شعارات ضد النظام.
وفي بعض الحالات، استهدفت قوى الأمن النوافذ حيث رأت المتظاهرين يهتفون خلفها.
ويبقى أسلوب القمع الأساسي للنظام قطع الإنترنت عن الناس، وهو ما يمنع العالم من مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو التي ينشرها المتظاهرون في ظل قمع النظام لهم.
وتوقفت غالبية شركات الاتصالات الخلوية عن العمل، في حين لم يعد الاتصال بالإنترنت المنزلي ممكنا إلا بواسطة الشبكات الافتراضية الخاصة وتعطل إرسال الهواتف الخلوية.