سلّط تسجيل صوتي مسرب لمحادثة سُجلت سرا بين مسؤولين بارزين اثنين في الحرس الثوري الإيراني، الضوء مجددا على فضيحة فساد تعود إلى العام 2018 ورغبت جهات عدة في النظام تركها في غياهب النسيان.
وينقل التسجيل الذي سُرب في 13 شباط/فبراير ويتم تداوله على نطاق واسع، محادثة جرت منذ 3 سنوات بين القائد السابق للحرس الثوري الإيراني محمد علي جعفري، ونائبه الاقتصادي صادق زولغادرنيا.
وتمنح هذه المحادثة سياقا جديدا للأحداث التي تناولتها الأخبار عام 2018، عندما سُربت تقارير عن قضية فساد مستشر وعمليات غسيل أموال في مجموعة ياس القابضة، وهي واجهة للحرس الثوري أنشأت عام 2016.
وثبتت مسؤولية الشركة التي أنشأت على يد مجموعة من القادة النافذين في الحرس الثوري وفيلق القدس التابع له، في قضية اختلاس نحو 130 تريليون ريال إيراني، أي ما كان يعادل آنذاك نحو 1.8 مليار دولار.
وكانت مجموعة ياس القابضة تحظى بدعم قوي من مجتبى خامنئي نجل المرشد الإيراني، ومن ثم من قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري قاسم سليماني، بالإضافة إلى جعفري ومحمد باقر قاليباف رئيس بلدية طهران آنذاك.
كذلك، حظيت المجموعة بدعم من المسؤول الرفيع في الحرس الثوري حسين تائب، وهو رجل دين نافذ تقلد مناصب عليا في الحرس الثوري على مدى عقدين من الزمن.
وفي عام 2007، تولى تائب منصب قائد قوات الباسيج المقاوِمة ويشغل منذ العام 2009 منصب رئيس استخبارات الحرس الثوري، وهو منصب يعين المرشد الأعلى علي خامنئي شاغله.
وفي عام 2020، اندمج جهاز الاستخبارات التابع للحرس الثوري مع قسم الاستخبارات الاستراتيجية، وبقي تائب في منصبه الإداري.
وأدرجت الولايات المتحدة تائب على لائحة العقوبات، ومنع من دخول دول الاتحاد الأوروبي حيث تم تجميد أصوله.
وفسّر الاتحاد الأوروبي هذه الخطوة بكون "القوات الخاضعة لقيادته قد شاركت في عمليات ضرب جماعي وقتل واعتقالات وتعذيب للمتظاهرين السلميين" في عدة تظاهرات حاشدة نظمت خلال العقد الماضي.
مجموعة ياس القابضة
وكانت مجموعة ياس القابضة تُعرف على أنها الذراع الرئيسي لمنظمة التعاون الاقتصادي التابعة للحرس الثوري، فتلعب فعليا دور أمين خزانة فيلق القدس في الحرس الثوري.
وكانت المجموعة تمتلك أصولا حكومية كبيرة وركزت عملها على العقارات، فعملت أيضا كوسيط في المعاملات والسمسرة في الصفقات المهمة. وأقفلت عام 2018 بعد أن سربت تقارير بشأن تورطها بعمليات فساد كبيرة.
ونتيجة لهذه التسريبات، تم توقيف عدد محدود من المدراء ذات الرتب المتوسطة وصدرت بحقهم أحكام مشددة بالسجن، ولكن لم يتم حتى بحسب المعلومات استجواب المدراء من الدرجة الأولى والجهات المعنية مثل مجتبى خامنئي وتائب وقاليباف.
وقد وصل قاليباف حتى إلى شغل منصب رئيس المجلس (البرلمان).
وفي حين شوهت التسريبات سمعة مجموعة ياس القابضة التي أقفلت بعد ذلك، تواصلت بلا هوادة أنشطة الحرس الثوري غير المشروعة والفساد المستشري في صفوفه وسيطرته على البلاد بقبضة حديدية.
وكانت سمعة الحرس الثوري قد اتخذت شكلا معينا دفعت الرئيس السابق حسن روحاني ذات مرة إلى وصفه بأنه "الحكومة المسلحة" لإيران.
تسجيل صوتي مسرب
وسرب التسجيل الصوتي الذي يوثق محادثة استمرت 49 دقيقة بين جعفري وزولغادرنيا، في 13 شباط/فبراير، واعتبرته وكالة أنباء فارس التابعة للحرس الثوري "أصليا" في 16 شباط/فبراير.
وتركز المحادثة بين الرجلين بشكل خاص على عملية تخصيص الأموال لأجزاء مختلفة من فيلق القدس التابع للحرس الثوري.
وفي ذلك الوقت، كان للجعفري خصوم داخل الحرس الثوري ومكتب خامنئي. وبعد وقت قصير من تسجيل المحادثة أي قبل نحو 3 سنوات من تسريبها، أقيل جعفري من قيادة الحرس.
يُذكر أن قسم اللوجستيات والاستعدادات التابع للقوات المسلحة للجمهورية الإسلامية الإيرانية (الأرتش) ويعرف باسم إيتكا، يخضع لسيطرة الحرس الثوري منذ سنوات طويلة.
ولكن ذكر زولغادرنيا في التسجيل المسرب، "علينا [الحرس الثوري] أن نتصرف بموضوع إيتكا، لأن عناصر الأرتش حاولوا مؤخرا التغلل فيها".
وخلال محادثتهما، أعرب الرجلان عن نيتهما الإبقاء على سرية "كامل القصة" المرتبطة بالمال والمخصصات.
وأشار الرجلان في حديثهما إلى حجم الأموال التي يدينون بها للشعب والتي تصل وفقا لهما إلى 200 تريليون ريال إيراني، أي ما كان حينها يعادل نحو 10 مليارات دولار. وقالا أيضا إن الحكومة (أي حكومة روحاني) "توقع على ما نريد أن يتم توقيعه".
وتحدثا عن المبالغ المالية الباهظة التي تخصصها شهريا معظم المنظمات والمؤسسات وبينها الحرس الثوري الإيراني، لمكتب خامنئي.
وقال جعفري في المحادثة "يجب أن نطيع المرشد [خامنئي]، ونحن نفعل ما يشاء". وأضاف لاحقا أن خامنئي أمر بتخصيص 90 في المائة من ميزانية الحرس الثوري لفيلق القدس التابع للحرس، على أن يخصص 10 في المائة للحرس الثوري.
وذكر الرجلان أن قائد فيلق القدس آنذاك أي سليماني، كان قد طلب أن يتم تخصيص المبلغ لفيلق القدس وقد وافق خامنئي على ذلك.
ترقيات بدلا من عقوبات
وعلى الرغم من الفساد الصارخ الذي تم الكشف عنه عام 2018 وحجم المبالغ الكبيرة من الأموال التي اختلسها الحرس الثوري، كانت التداعيات على الجهات النافذة شبه غائبة.
فأقيل جعفري وعُين في منصب أدنى كقائد لقاعدة بغية الله التابعة للحرس الثوري الإيراني والتي تهتم بالشؤون "الثقافية والاجتماعية"، بدلا من الشؤون العسكرية البحتة.
وأقيل أيضا زولغادرنيا من منصبه، علما أنه من الممكن أنه من سجل المحادثة سرا. ولكن كونه من المقربين من قاليباف، بدأ العمل لصالحه عندما أصبح هذا الأخير رئيسا للمجلس.
ولاحظ مراقبون أن العقوبات التي صدرت بحق صغار المسؤولين كانت مناسبة أكثر نظرا للجريمة المرتكبة، هذا طبعا في حال تم تنفيذها بالكامل.
وصدر بحق نائب قاليباف في بلدية طهران، عيسى شريفي، حكم بالسجن لمدة 20 عاما ورد الرشاوى التي تلقاها. وحكم على النائب الاقتصادي لمخابرات الحرس الثوري آنذاك، محمود سيف، بالسجن 30 عاما مع إعادة الممتلكات التي حصل عليها عبر الفساد.
وحكم على نائب المدير الاقتصادي لمنظمة التعاون الاقتصادي التابعة للحرس الثوري مسعود مهردادي، بالسجن مدة عامين.
فساد من رأس الهرم إلى أسفله
وفي 18 شباط/فبراير من العام الجاري وبعد أن تم تداول التسجيل المسرب على نطاق واسع في وسائل التواصل الاجتماعي ومن قبل وسائل إعلام محلية عدة، تحدث خامنئي عن القضية في كلمة ألقاها.
وفي دفاعه عن الحرس الثوري، أكد أن "العدو يحاول تشويه سمعة الشهيد سليماني".
وأعرب عدد من أعضاء الحرس الثوري والمجلس والحكومة عن دعمهم لمن وردت أسماؤهم في التسجيل الصوتي، وحاولوا التقليل من أهميته باعتباره "تافها" أو "حالة اختراق مؤسفة".
وأشار مراقبون إلى أن غالبية أعضاء الحرس الثوري والمجلس والحكومة محافظون ومقربون من خامنئي.
وأوضحوا أنه في الجمهورية الإسلامية، تتم مكافأة المخالفين التابعين لخامنئي والحرس الثوري على جرائمهم، لا سيما إذا كانوا يعملون لصالح فيلق القدس التابع للحرس الثوري والذي يعمل بصورة نشطة على زعزعة استقرار المنطقة والتدخل في شؤون الدول الأخرى.
وصدق المثل الصيني القائل إن "السمكة تتعفن من الرأس إلى الأسفل".
وذكر المراقبون أن هذه فعلا حال الفساد في إيران، حيث يبدأ الفساد من رأس الهرم أي خامنئي، ليصل إلى "طرف السمكة"، أو إلى المسؤولين ذات المناصب الدنيا في الحرس الثوري والتابعين له.