سعت روسيا عبر تدخلها في النزاع السوري إلى دعم نظام بشار الأسد وتوسيع نطاق نفوذها الاقتصادي والسياسي والعسكري.
لكن بعد نحو عشر سنوات من الحرب، يسود الخراب سوريا وبات نظامها الزراعي في حالة يرثى لها، وشعبها يتضور جوعا وسط نقص حاد في الخبز.
فسوريا التي كانت مكتفية ذاتيا من القمح، أجبرتها الحرب على استيراده من روسيا. لكن اليوم، وبهدف تأمين حاجاتها الداخلية وسط أزمة فيروس كورونا، انسحبت ست شركات روسية من ستة عقود كانت قد أبرمتها مع سوريا.
وكشف تقرير سوريا ومؤسسة الحبوب السورية عن تراجع واردات سوريا من القمح التي تبلغ في المتوسط 1.1 مليون طن سنويا، ومصدر معظمها من روسيا.
وتضاعف سعر الخبز المدعوم، ما فاقم أزمة عدم توفر هذه المادة التي أججتها معدلات التضخم المرتفعة وبتنا نشهد طوابير طويلة من السوريين أمام المخابز ونقاط البيع ينتظرون ساعات طويلة للحصول على حصتهم اليومية من الخبز.
ويحمل الكثير من السوريين مسؤولية تجويعهم لروسيا بعد تراجعها عن التزامها إمداد البلاد بالقمح، معتبرين أنها تنظر إلى معاناتهم كأضرار جانبية في مسعاها لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية.
فلسنوات مضت وروسيا تهدف سرا إلى وضع يدها على موارد سوريا الطبيعية الهائلة وغير المستغلة، والتي أثبتت الدراسات وجودها لا سيما في شرقي سوريا.
وأصبحت منطقة دير الزور الغنية بالموارد منطقة تنافس بين روسيا وإيران. وتُظهر التقارير الأخيرة انشقاق المقاتلين عن الميليشيات الموالية لإيران بوتيرة متواصلة منذ أشهر ، ومسارعة روسيا لضمهم إلى منظومتها الأمنية الموجودة في المنطقة.
ومن بين الأهداف الروسية الأخرى تأمين حصولها على عقود مربحة لإعادة الإعمار، واتفاقات طويلة الأجل تضمن وجودا عسكريا لها في البلاد.
النكث بالوعود
في هذا الإطار، قال الخبير الاقتصادي السوري محمود مصطفى إن شركات خاصة تصدر القمح من روسيا إلى سوريا بموجب عقود أبرمتها مع النظام السوري، وتتقاضى مستحقاتها بالدولار الأميركي.
وأضاف أنه رغم تأكيدات روسيا أنها ستواصل تصدير القمح إلى سوريا، أوقفت تلك الشركات عمليات التصدير.
وذكر أنه "بسبب الضائقة الاقتصادية والمالية التي تمر بها سوريا وعجزها تاليا عن سداد ما يتوجب عليها، توقفت هذه الشركات عن تصدير القمح إليها وانسحبت [من عقودها]".
وأكد أن هذا الأمر "يدحض كليا ما دأبت روسيا على التصريح به لجهة وقوفها إلى جانب الشعب السوري ومساعدته"، مشيرا إلى أنه بإمكان روسيا حل أزمة الخبز في سوريا لو شاءت.
لكن بدلا من ذلك، أكد أن روسيا "تستغل هذه الورقة للضغط [على النظام] طمعا بالحصول على امتيازات سياسية واستثمارية في مواجهة النفوذ الإيراني المتزايد".
تفاقم أزمة نقص الخبز
ووفقا لتقديرات منظمة الأغذية والزراعة التابعة للأمم المتحدة، تضاعف إنتاج القمح المحلي العام الماضي بسبب الأمطار الغزيرة التي سقطت وتحسن الوضع الأمني ليبلغ 2.2 مليون طن. إلا أنه لم يصل بعد إلى نصف المعدل الذي كان عليه قبل الحرب.
وأوضح مصطفى أن أسباب تراجع إنتاج القمح كثيرة لكنها متداخلة.
وتابع أنه "قبل الحرب، كانت سوريا تحقق اكتفاء ذاتيا من القمح" إذ كانت تنتج سنويا ما يقدر بـ 3.4 مليون طن.
ومع اندلاع الحرب، تراجع الإنتاج مع خروج مناطق غنية بالأراضي الزراعية عن سيطرة النظام وتأثرها بالعمليات القتالية إلى جانب الأضرار التي لحقت بأنظمة الري وشبكات التوزيع، حسبما قال.
وزاد النقص في الخبز بشكل حاد خلال أيلول/سبتمبر، وفي تشرين الأول/أكتوبر ضاعف النظام سعر الخبز المدعوم إلى 100 ليرة سورية (0.21 دولار)، مقلصا في الوقت عينه وزن كل ربطة وفارضا على العائلات قيودا على شرائه.
ومع تضاعف الأسعار، تدهورت جودة الخبز وباتت الطوابير أمام الأفران أطول.
من جانبه قال الطالب في كلية الصيدلة بجامعة دمشق محسن النقري، إن تأمين الخبز "أصبح كابوسا يوميا حقيقيا للسوريين القاطنين في مناطق سيطرة النظام".
وفي تشرين الأول/أكتوبر، تم تداول مجموعة من الصور على الإنترنت لزبائن يصطفون أمام مخبز حكومي في دمشق داخل ما يشبه الأقفاص الحديدية للحصول على الخبز، وأثار هذا المشهد غير الإنساني غضبا شعبيا عارما وسلط الضوء على أزمة الخبز.
غضب متزايد
وأضاف النقري أن الناس المنتظرين في طوابير بمناطق سيطرة النظام ما زالوا حتى الآن يتعرضون أحيانا للإهانة أو الضرب، لا سيما عندما يحاول أحد العناصر الأمنية أخذ دورهم في الطابور.
وأكد أن "النقمة بين المدنيين ليست موجهة فقط ضد النظام بل تطال أيضا روسيا التي تستطيع توريد القمح لكنها تمتنع عن ذلك".
يدوره، قال سائق سيارة الأجرة محمد إبراهيم، 45 سنة، إنه ينضم عند الثالثة فجر من كل يوم إلى طابور طويل من السوريين الذين ينتظرون لشراء الخبز في المخبز المحلي بمدينة طرطوس. وبعد ثلاث أو أربع ساعات، يتوجه إلى أقرب محطة بنزين لينتظر في طابور مرة أخرى.
وأضاف "احتاج لأعمل 12 ساعة على الأقل لتأمين حاجات أسرتي الأساسية بعد الارتفاع الجنوني للأسعار، لكن بدلا من ذلك، أقضي ثلاث ساعات يوميا بطوابير البنزين والخبز".
وأشار إلى أن نوعية الخبز المطروح في الأسواق "رديئة جدا"، متهما النظام باستخدام نوعية قمح سيئة.
وأكد أن عمليات بيع الطحين والخبز تشهد رواجا كبيرا في السوق السوداء حيث يصل سعر ربطة الخبز الواحدة إلى 500 ليرة سورية (1 دولار أميركي)، أي خمسة أضعاف سعرها الرسمي.