أصدرت محكمة دولية يوم الجمعة، 11 كانون الأول/ديسمبر، 5 أحكام بالسجن مدى الحياة بحق عضو حزب الله المتواري عن الأنظار سليم عياش، في قضية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري و21 شخصا آخرين عام 2005.
وكانت المحكمة الخاصة بلبنان قد أدانت من مقرها في هولندا عياش، 57 عاما، غيابيا بتهمة القتل والإرهاب في 18 آب/أغسطس، على خلفية التفجير الانتحاري الضخم الذي أدى إلى مقتل السياسي الملياردير السني وجرح 226 آخرين.
ولا يزال عياش هاربا إذ يرفض زعيم حزب الله حسن نصرالله تسليمه أو الاعتراف بالمحكمة التي تدعمها الأمم المتحدة، مما أثار غضب العديد من اللبنانيين الذين يعتبرون أن الحزب يعرقل مسار العدالة.
وعند تلاوة الحكم، قال كبير القضاة ديفيد ري، إن "السيد عياش شارك في عمل إرهابي تسبب في قتل جماعي".
وأضاف أن "الدائرة الابتدائية ترى وجوب فرض العقوبة القصوى لكل من الجرائم الخمس، وهي السجن مدى الحياة ويتم تنفيذها في الوقت نفسه".
وأصدرت المحكمة مذكرة توقيف دولية بحق عياش للجرائم "بالغة الخطورة" التي ارتكبها.
ودفعت تصريحات زعيم حزب الله الرافضة تسليم عياش بالقاضي ري إلى "الاستدلال" بأنه محمي من المثول أمام العدالة.
وفي هذا السياق، دعا نجل الحريري سعد الذي أصبح هو نفسه رئيسا للوزراء، دعا السلطات اللبنانية للمساعدة في إحضار عياش إلى العدالة.
وقال الحريري على تويتر، "يجب وضع العقوبة التي أنزلت بسليم عياش موضع التنفيذ وعلى السلطات القضائية والأمنية اللبنانية القيام بواجبها في هذا الخصوص".
وكان لبنانيون قد عبّروا عن خيبة أملهم بالحكم الذي صدر في 18 آب/أغسطس الفائت، بعد محاكمة استمرت 6 سنوات وكلفت ملايين الدولارات.
وفي حديثهما للمشارق، قال المواطنان اللبنانيان جميل عيتاني ومحمد سلمان إن قرار المحكمة كان "ناقصا لأنه لم يسم حزب الله والنظام السوري [كطرفين مدانين] واكتفى بإدانة سليم عياش المتواري عن الأنظار".
واعتبرا أن قرار المحكمة الدولية الخاصة بلبنان "أساء للضحايا وذويهم وأساء للعدالة التي كنا ننتظرها".
جريمة منظمة
وقد غيّر الهجوم على الحريري وجه الشرق الأوسط، وكان هذا الأخير قد شغل منصب رئيس وزراء لبنان حتى استقالته في تشرين الأول/أكتوبر 2004.
وقتل الحريري في شباط/فبراير 2005 عندما فجّر انتحاري حافلة نقل مفخخة أثناء مرور موكبه المؤلف من سيارات مدرعة على طريق مقابل لشاطئ بيروت.
وقالت المحكمة إن الانفجار "الضخم" الذي خلف حفرة بعرض 11 مترا، "كان يهدف في الواقع إلى بث الرعب وقد تسبب فعلا بذلك".
وأثار الهجوم مظاهرات شعبية تسببت في نهاية المطاف بإخراج القوات السورية من لبنان بعد تواجدها فيه على مدى 3 عقود، علما أن الحريري كان معارضا للوجود السوري في لبنان.
وذكر القضاة أن دور عياش كان محوريا في شبكة مستخدمي الهواتف الخلوية الذين رصدوا تحركات الحريري طوال أشهر قبل اغتياله.
وأكدت المحكمة التي أصدرت حكمها بحق عياش يوم الجمعة، أنه لا يوجد دليل مباشر على تورط سوريا أو حليفها حزب الله في الهجوم، مشيرة إلى أن "جهات حكومية كانت على الأرجح متورطة فيه".
واعتبرت القاضية جانيت نوسوورثي أن "الدولة الأكثر استفادة من اغتيال السيد الحريري هي على الأرجح سوريا".
وقال محللون للمشارق إن الحكومتين اللبنانية والسورية رفضتا التعاون في التحقيقات وأخفتا الأدلة، مما يعتبر عرقلة للعدالة في قضية المتهمين الثلاثة الآخرين وهم أسعد صبرا وحسين عنيسي وحسن حبيب مرعي.
وقال المحلل القضائي اللبناني يوسف دياب إن الحكم جاء مخيبا لآمال الكثيرين، ولا سيما لأهالي الضحايا وأنصار رفيق الحريري الذين كانوا ينتظرون حكما أكثر قساوة.
وأوضح أن تبرئة المتهمين الثلاث كانت مفاجئة لهم لأن كل الأدلة أشارت إلى تورطهم في الجريمة، ومع ذلك أعلنت المحكمة عدم كفاية الأدلة لإدانتهم في حين كانت جازمة بحق عياش.
وأضاف دياب أن "الجميع توقع عدم تعاون حزب الله والنظام السوري مع المحكمة كي لا تكر سبحة الاتهامات وما يستتبعها من إدانات".
ولفت إلى أن المحكمة "قامت بجهود جبارة واستندت إلى أدلة وقرائن جمعتها لجان التحقيق الدولية والمدعي العام الدولي".
وتابع أن المدعي العام الدولي قد يتجه للاستئناف والطعن بتبرئة المتهمين الثلاثة الأخرين، بما أن الجريمة منظمة وتم التخطيط لها بدقة.
وأردف دياب قائلا، "علينا أنتظار فصول جديدة من المحاكمات قد تعيد فتح ملف الحريري".
من جهتها، ذكرت الصحافية سارة مطر أن قرار المحكمة كان مخيبا لآمال العديد من اللبنانيين بعد سنوات الانتظار الطويلة والتكاليف الباهظة التي صرفت على التحقيقات.
وبالفعل، كلفت المحكمة الخاصة بلبنان أموالا طائلة، وقد وصلت خلال عقد ونيف مع كلفة التحقيقات إلى مليار دولار.
الحكم ’رسالة إلى كل الإرهابيين‘
من جهته، اعتبر الكاتب السياسي محمد نمر في حديثه للمشارق، أن اللبنانيين "كانوا ينتظرون من المحكمة قرارات أكبر، لكن القرار الصادر يؤكد أن المحكمة غير مسيسة وأنها أصدرت أحكامها وفق براهين ودلائل ومعلومات حصلت عليها من التحقيقات المتوافرة، على الرغم من محاولات تضليلها".
وتابع نمر أن "من يطلع على نص القرار والمسار السياسي ما قبل اغتيال الحريري، يستنتج بوضوح أن النظام السوري وحزب الله متورطان بعملية الاغتيال، وقد تقصدت المحكمة ذكر ذلك في نص القرار".
وذكر أنه على الرغم من أن الحكم جاء مخيبا للآمال بالنسبة للكثيرين، فإنه رسالة لكل الإرهابيين الذين يستهدفون القادة اللبنانيين وسوف يسجل التاريخ أن أحد قادة حزب الله هو الذي اغتال الحريري.
وتابع أنه في حين أنه ليس مستغربا أن يرفض النظام السوري التعاون مع المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، بات العالم أجمع يعلم اليوم أن أيدي النظام السوري ملطخة بالدماء، وتعد الثورة السورية ونتائجها أكبر دليل على ذلك.
وقال خبراء في القانون إن الحكم لا يزال مهما حتى بدون وجود عياش في قفص الاتهام.
ونقلت وكالة الصحافة الفرنسية عن كبير الباحثين في معهد آسر في لاهاي كريستوف بولوسن قوله إن "المحاكمات الغيابية ليست بالطبع الطريقة المثلى لتحقيق العدالة الدولية".
وكانت تعتبر المحاكم الدولية أشبه "بعملاق بدون أذرع وأرجل"، لأنها اعتمدت على الدول لاعتقال المشتبه بهم ولا يمكنها تنفيذ القرارات بنفسها.
وذكر بولوسون "لكن حتى مع هذا العائق، أنشأت اليوم المحكمة الخاصة بلبنان على الأقل سجلا قضائيا موثوقا للغاية حول ما حدث قبل 15 عاما، وبالتالي ساعدت المجتمع اللبناني على الابتعاد عن ثقافة الإفلات من العقاب والتوجه نحو ثقافة المساءلة".